الملخص
تنطلق إشكالية الدراسة من أن الفكر السياسي الإسلامي بشكل عام يعاني من نقصٍ وضعفٍ، وعدم تكاملٍ في نظريته في السياسية العامة. وبسبب هذا النقص والضعف، فقد اختلفت الآراء والدراسات بشأن فكرة الحكم والدولة في الإسلام بشكل كبير جداً، حتى بلغت حدَّ التباين والتضارب التام – في أحيان كثيرة – حول المفهوم والماهية والأسس والمبادئ، وحتى حول مدى ارتباط هذه الفكرة بالإسلام كدين وشريعة، وكذلك حول مدى تواؤمها مع نموذج العصر الذي نحياه، والمتمثل في الدولة الحديثة، وطريقة تفاعلها معها، والأشكال التي يمكن أن تأخذها في ظل مفاهيمها الحداثية.
وانطلاقاً من هذه الإشكالية قمنا في هذا البحث ومن خلال نمط الأبحاث المقارنة، بدراسة فرضية الدولة المستحيلة لوائل حلاق نموذجاً وفرضية مركزية، قام بناء هيكل البحث بالاعتماد عليها، حيث تمت عملية مقارنتها ومقاربتها بالأفكار والأطروحات الأخرى، والتي شملت الأطروحات التي تتأسس على فكرة الدولة والحكم في الإسلام، مثل أطروحة (الخلافة) التراثية لدى أصحاب النظرية الاتباعية، وأطروحة الدولة الإسلامية لدى أصحاب الإسلام السياسي، والأطروحات الأخرى الناقدة لفكرة الدولة الإسلامية كأطروحة الدولة المستحيلة وما قاربها، أو تلك المعارضة بشكل عام لها كما هي عند العلمانيين وسواهم. وقد تم ذلك من خلال دراسة كل تلك الأفكار دراسة علمية واعية بكل تناقضات الفرضيات والحجج. حيث خلص البحث إلى نتيجة يرجح من خلالها بعض الآراء التي تتعلق بكلا مفهومي؛ الدولة الحديثة والحكم الإسلامي، والتي تتبنى؛ أن نموذج الدولة القومية الحديثة يعاني من وجود مأزق أخلاقي حقيقي، وأن نموذج الدولة الإسلامية، هو طرح غير ناضج حداثياً وغير راسخ إسلامياً.
المقدمة
من أبرز سنن الله تعالى في خلقه، هي سنة الاختلاف؛ الاختلاف في الخلق والتصوير، والاختلاف في السلوك والنهج، والاختلاف في الاعتقاد والرأي. حيث كانت سنة الاختلاف هذه، المحرك الحقيقي لعجلة التاريخ والتطور على السواء. وقد خضعت الأمة الإسلامية – كسائر الأمم والحضارات – لقانون الدورة الحضارية هذا، فمنذ أُسُس النَّظم الأولى، التي أرساها الرسول –عليه الصلاة والسلام- في مجتمع المدينة المنورة، ثم ما تلا ذلك مما تجسد في عهد الخلفاء الراشدين والعهد الأموي والعباسي والعثماني، وصولاً إلى مرحلة الاستعمار الغربي ثم واقعنا المعاصر، مرت هذه الأمة بأحوالٍ وأطوارٍ شتى عبر تاريخها الممتد لأكثر من أربعة عشر قرناً. وبالتوازي مع هذا التطور للأمة الإسلامية في حضورها الحضاري على الأرض خلال مسيرتها الزمنية تلك، كان هناك تغير وتطور كبير للواقع العملي والمفهوم النظري للحكم وأسس النظام السياسي الناظم لشؤون هذه الأمة (صبري، 2017م، ص 20).
ونتيجة لذلك، فقد تطور نظام الحكم الإسلامي شيئاً فشيئاً عبر العهود المختلفة، وتعقدت مسائل الحكم أيضاً شيئاً فشيئاً بشكل أكبر عما كانت عليه، فتولَّدت قضايا جديدة واجهت الخلفاء والأمراء لم تكن واضحة في كتاب الله وسنة نبيه، ولا حتى في سنة الخلفاء الراشدين، والتي شكلت منهاجاً يقتدى به لسائر العهود. فكان لزاماً على علماء الأمة ومفكريها – جيلاً بعد جيل- وضع أسس فكرية نظرية من واقع الضرورة والحاجة، لتفصيل وتحديد العديد من القضايا السياسية والإدارية بشكل نظري، مستندين في ذلك إلى النصوص المؤسسة (القرآن الكريم والسنة النبوية)، ومستأنسين بحوادث الزمان واجتهادات السابقين، وكذلك كتابات وفكر الآخرين من سائر الأمم، وذلك من أجل أن ينزل هذا الفكر الجديد لديهم منزله لدى أهل الحكم والسلطة في سياسة البلاد والعباد.
وبسبب ذلك فإن الآراء تختلف كثيراً حول نموذج الحكم الإسلامي انطلاقًا من مفهوم الدولة الإسلامية وماهيتها ومدى ارتباطها بالإسلام كدين وشريعة، ومدى انسجامها وتلاؤمها مع النموذج المهيمن في هذا العصر (الدولة القومية الحديثة) بمفهومها الغربي وفلسفتها التنويرية، والأشكال التي يمكن أن تأخذها بالنظر إلى أسسها والميتافيزيقيا التي تستند إليها، وكذلك سائر التفاصيل الأخرى التي تتعلق بهذا المفهوم.
يناقش البحث فرضية طرحها وائل حلاق في كتاب الدولة المستحيلة “مفهوم الدولة الحديثة” أو ما يعرف اصطلاحاً باسم “الدولة القومية” “Nation – State“. وكأنه بهذا الاستفتاح يحاول أن يلخص فكرته النقدية ابتداءً حول الدولة الحديثة بشكل عام، على أنها تمثل إله هذا العصر، وذلك بحسب مفكريها والأسس التي بنيت عليها والأدبيات التي نظَّرت لها. كما ناقشت البعد الأخلاقي بشكل أساسي، والذي يرى أنه يمثل (إشكالية المشروع الحديث) برمته، التي تتلخص في أن تقهقر الأمر الأخلاقي إلى مرتبة ثانوية وفصله بصورة عامة عن العلم والاقتصاد والقانون وما الى ذلك، كان في جوهر المشروع الحديث، وهو ما أدى إلى تشجيع أو إهمال الفقر والتفكك الاجتماعي والدمار البغيض للأرض نفسها التي تغذي البشرية وتوفر لها كلاً من الاستغلال المادي والقيمة. حيث يشكل هذا البعد الأخلاقي، المحور الأساسي الذي دارت حوله فكرة الأطروحة وبالتالي الفرضية ككل.
وسيركز البحث على مناقشة هذا التصور الذي قدمه حلاق للدولة الحديثة والنقد الذي أبداه حولها وحول الحداثة بشكل عام، مع الحرص ألا تقودنا النقاشات الفلسفية المعمَّقة التي خاضها حلاق في معرض نقده للدولة الحديثة والحداثة عموماً، إلى الغوص في لجج الفلسفة الأخلاقية والسياسية والابتعاد عن غاية هذا البحث الأساسية، كدراسة بحث مقارن في السياسية، إلى الجدل الفلسفي والنقاش التنظيري، لذلك سنجتهد لعرض أهم الأفكار التي تختصر رؤية حلاق للدولة الحديثة، بما يخدم علمية المقارنة اللاحقة بينها وبين الحكم الإسلامي، على ألا يؤثر ذلك في عمق الفكرة الأساسية التي قدمها حلاق حول الدولة الحديثة ومدى قوة البناء المنهجي الذي ترتكز إليه في الدفاع عن حجيتها العلمية في هذا البحث.
وبناء عليه، سيتم تناول رؤية حلاق للدولة الحديثة بالدراسة من خلال نقطتين أساسيتين:
- مفهوم الدولة الحديثة.
- سمات وخصائص الدولة الحديثة.
ومن ثَمَّ، سنقوم بمناقشة هذه النقاط من خلال وجهات نظر إما متوافقة مع رؤية حلاق من حيث المبدأ ولكن مختلفة في الطرح، أو ناقدة ومغايرة لها تماماً، ودون التعمق في النقاش الفلسفي وعرض الآراء المتعددة الموافقة والمخالفة، رغبةً في الوصول إلى الهدف من هذا البحث بأفضل وأقصر الطرق المؤدية إلى إيضاح مفهوم الدولة الحديثة والأسس والسمات التي لها، سواء فيما تبناه حلاق في منظوره أم في الطرح الآخر المخالف أو المغاير والذي يساعد على رسم الملامح الكلية لهذا المفهوم وأبعاده، بما يتناسب مع حجم وحاجة وغاية هذا البحث.
للاطلاع على البحث المنشور كاملاً، يرجى زيارة الرابط التالي: