دعوى منع المجاهرة بالإفطار في رمضان؛ حكم أم تنطع؟!

فرض الله العبادات على المسلم كشعائر تعبدية فردية مخصوصة بين العبد وربه لغايات سامية تفيد العبد نفسه، حيث تؤدي لتعزيز صلته وتواصله مع الله وتستحضر رقابة خالقه له، فيرق قلبه وتسمو روحه وينضبط عقله كمقصد نفسي على المستوى الفردي الشخصي، فتخشع جوارحه ويصلح سلوكه ويسمو خلقه كمقصد تطبيقي سلوكي على المستوى الفردي الاجتماعي، فينهض مجتمعه وتتحضر أمته كمقصد تطبيقي عمراني على المستوى الاجتماعي العام. ولم تفرض هذه العبادات لحاجة إلهية حاشاه تعالى كما يوحي البعض عن غير قصد، حتى نمن على الله فنفرض أحكام إضافية لهذه العبادات ما أنزل الله بها من سلطان كأننا نشترطها على ربنا لنؤديها على أكمل وجه.

آية


إذن فالعبادات والشعائر هي من الخاص في الاسلام في حكمه، العام في أثره، لذلك يجب ألا يتحول هذا الخاص في أحكامه إلى عام في تشريعه، والا ضاع أثره الإيجابي المقصود من خلال كثير من الانعكاسات السلبية ليس اقلها ازداد النفاق ودفع إليه الناس دفعاً، فعوضاً عن الخير المرجو والمقصود على مستوى المجتمع والأمة من دور العبادة في حياة الفرد، سنتحصل على مجتمع منافق وأمة رياء تحفر قبرها بيدها (استَجيبوا لِرَبِّكُم مِن قَبلِ أَن يَأتِيَ يَومٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُم مِن مَلجَإٍ يَومَئِذٍ وَما لَكُم مِن نَكيرٍ * فَإِن أَعرَضوا فَما أَرسَلناكَ عَلَيهِم حَفيظًا إِن عَلَيكَ إِلَّا البَلاغُ وَإِنّا إِذا أَذَقنَا الإِنسانَ مِنّا رَحمَةً فَرِحَ بِها وَإِن تُصِبهُم سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَت أَيديهِم فَإِنَّ الإِنسانَ كَفورٌ) الشورى: 47-48.

لذلك فان الاجتهادات التي تظهر بين الفنية والأخرى قبيل كل رمضان حيال منع المجاهرة بالافطار في رمضان واحترام الصائم بعدم الأكل والشرب أمامه، والذي طالما ظهر في الأمة بأشكال مهما اختلفت بأشكالها تتشابه في مفهومها، هو ليس جزء من هذه الشعيرة التعبدية ولا حتى متمم لها، بل على العكس هو تضييق تنهى عنه مقاصد هذا الدين الحنيف وتعاليمه، وهو حكم يدس بالدين من دون سلطان مبين، مغلق بنوايا تدينية ظاهرها الإيمان وحقيقتها التنطع والبدعة. ورحم الله ابن القيم حين قال ما يسطر بماء الذهب: “الشَّرِيعَة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح الْعباد، فِي المعاش والمعاد، وَهِي عدل كلهَا، وَرَحْمَة كلهَا، ومصالح كلهَا، وَحِكْمَة كلهَا، فَكل مَسْأَلَة خرجت عَن الْعدْل إِلَى الْجور، وَعَن الرَّحْمَة إِلَى ضدها، وَعَن الْمصلحَة إِلَى الْمفْسدَة، وَعَن الْحِكْمَة إِلَى الْعَبَث فليستْ من الشَّرِيعَة، وإنْ أُدخلتْ فِيهَا بالتأويل”.

قرار


وقبل أن يستهدف أصحاب هذه الطروحات الأقليات في المجتمعات الإسلامية كرافضين لهذه المفاهيم (ومعظمهم ليس كذلك حقيقة) بهذا الكلام وغيره كما يذهب اليه البعض، علينا ان نتذكر كمسلمين أن الأطفال والمرضى والمسافرين والحائض والنفساء من النساء ومن لا يطيقون الصيام لمشقة في عمل او شأن خاص وحتى من أجيز لهم الفداء هم جزء من الأسرة والمجتمع المسلم وهم كتير كثير، ولو كان الاحترام جزءاً من هذه الشعيرة إذن لضاقت حياتهم بين أهلهم وضاق عليهم ما أجازه الله لهم تخفيفا وحكمة، فنعطل بذلك ما أمر به الله.

وكذلك استقراءً، لو انتهجنا فرض هكذا أحكام للعبادات الخاصة على نهج تشددي نعلم نماذجه مسبقاً، وهو ما ليس من الاسلام في شيء، بل هو من “تبليس إبليس” وبدع يقصد بها الاجر فيرجع صاحبها بالوزر، إذن لفتحنا الباب الى تنطع أكبر مع الوقت من مثل إغلاق المحلات أوقات الصلوات، وشيء فشيئا إلى إجبار الناس على الصلاة في المسجد، إلى آخر هذه الممارسات غير الاسلامية التي كانت تفرض باسم الاسلام ظلما وعدوانا في مكان ما هنا وهناك، وقد شهدنا أثرها على الاسلام والمجتمع. وفي هذا تنفيذاً لقوله صلى اله علهي وسلم: “إنَّ هذا الدينَ يسرٌ، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبهُ، فسدِّدوا وقارِبوا وأبشِروا ويسِّروا..” صحيح النسائي.

وأيضا على سبيل القياس والمقارنة، فإن المسلمين الذين يصومون في غير رمضان وهم كثر، لم يقل أحد منهم يوماً، كما لا يجوز أساسا لا دينا ولا منطقيا، أن على المفطرين أن يحترمون صيامهم، فلا ياكلوا او يشربوا امامهم، بل على العكس، ترى قسم كبير منهم يعتبر ان صيامه في غير رمضان التطوعي او التعويضي بحسب الحال خاصة التطوعي، امتياز له وخصوصية مع إفطار الآخرين، فكيف الحال إذن لمن يصوم الفرض في رمضان وغيره مفطر، فهو امتياز أكبر وطاعة أعظم نزولا عند هذا القياس.

الأولى برأيي من هذا التنطع في مجال السياسة العامة في الإسلام الذي لا أصل ولا حكمة له، هو إحياء الدين الحق في قلوب الناس من خلال القيام بحملة وعي ممنهجة لتعزيز دور قيم العبادات وأثرها في سلوك الفرد وفق فهم أصيل يبعد هذه الممارسات عن التمظر الشكلي التديني إلى البعد الإيماني الروحي السلوكي، وما يمكن أن تثمر عنه من مآلاتها متى صلح حال الفرد على حال المجتمع ككل فتعزيز القيم الأخلاقية فيه من حيث التعامل بين الناس وكذلك التعامل مع الشأن العام، وبذلك يتحقق المقصد الإلهي بقوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) الأنبياء: 107، والذي أشار إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أيضاً بقوله: “إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ” الألباني السلسلة الصحيحة.

 
الدوحة 22/02/2025

شارك:

مقالات ذات صلة:

Scroll to Top