التمرد الصامت والمظلومية المدججة؛ عن مثقفي السويداء وفتنة الغياب
أيمن قاسم الرفاعي
في زمن الفتنة… تمتحن المجتمعات، لا بالقوة وحدها، بل بصدق العقل، ونزاهة المثقفين، ووضوح المواقف الأخلاقية.
وحين تتسع رقعة النار، لا يكون دور المثقف أن يصب الزيت على اللهب، ولا أن يلوذ بالصمت الجبان… بل أن يكون صوت العقل والضمير الذي يضع الأمور في نصابها، دون مواربة أو مجاملة، ودون أن يغرق في خطاب التبرير أو الانفعال.
وللأسف، ما نراه اليوم من بعض من يُحسبون على النخبة الفكرية في السويداء يشي بانحسار هذا الصوت النزيه أمام طوفان الاصطفاف العاطفي والانغلاق الطائفي. لأن معظمهم إن لم نقل كلهم يفقدون قدرتهم، في لحظات الفتنة، على التحرر من انتماءاتهم الضيقة، ويعجزون عن قول كلمة حق متجردة، تعلو على المظلومية الطائفية أو الاصطفاف الأعمى.
لسنا هنا لنُدين مكونًا سوريًا وطنيا كالدروز، من كان لهم عبر التاريخ صفحات مشرقة من الوطنية ورجالات وقامات يحبها السورين بأسرهم. لكننا في لحظة دقيقة، تتطلب توصيفًا صريحًا ومجردًا للصراع، بلا مواربة ولا تزويق.
ما يجري في السويداء ليس وليد الساعة، بل امتداد لصراع عشائري قديم ومركّب، بين مكونات سكنية متجاورة، خصوصًا مع عشائر البدو في السويداء وأولئك المنتشرين في المحيط من البادية وريف دمشق ودرعا. هذا الصراع له جذور حقيقية، لم تُحلّ عبر مؤسسات الدولة في عهد النظام البائد، بل تُركت لعوامل التفكك والاحتراب البيني التي يتغذا عليها الأنظمة الفاسدة.
لقد تعاملت الدولة السورية بعد التحرير، بكل صبرٍ وأناة، مع تعقيدات المشهد في السويداء، رغم ما شابه من تجاوزات خطيرة؛ من تعطيل مؤسسات الدولة، إلى اختطاف المحافظ، وصولاً إلى تواطؤ بعض القوى مع جهات أجنبية، بل مع العدو الإسرائيلي نفسه، تحت لافتة “الخصوصية الطائفية”… خصوصيةٌ لا معنى لها إلا إذا كانت مبررًا للتمرد والانفصال.
واليوم، ما إن تقع فتنة – التي تشارك فيها أطراف من دروز السويداء بشكل مباشر أو غير مباشر – حتى يُعاد إنتاج خطاب المظلومية القديمة، وكأن كل حدث مهما كانت أسبابه يجب أن يُؤوَّل بكونه عداءً طائفيًا ضد مكوّن بأكمله. هذا نوع من الانتهازية السياسية التي تهدد السلم الأهلي، وتُحوّل الفكر الطائفي إلى لعنة تضرب أصحابه قبل غيرهم. والأخطر من كل ذلك، أن تظل القوى المهيمنة على المشهد في السويداء (كالهجري ومن لف لفيفه) تتعامل مع الدولة السورية وكأنها “طرف ثالث” غير مرغوب به!
في هذا السياق، فإن أي نداء يطلق “لنجدة دروز السويداء” اليوم، خارج إطار الدولة، يُفهم – عن قصد أو عن غير قصد – كنداء طائفي بالضرورة من الآخر، يلبّيه البعض بدافع “الحمية العشائرية” نصرة لأبناء عممتهم وقبائلهم، كرد فعل مضاد على ما يرونه خصوصية طائفية يتبناها جزء من المشهد السوري. وهذا أخطر ما في الأمر: أن تتحوّل الخصوصيات من مكونات للتنوع، إلى مبررات للانفصال، ومن ثم إلى شرارات احتراب أهلي.
منذ التحرير، تُمنع مؤسسات الدولة من ممارسة مهامها في المحافظة: الهيمنة على المقرات الأمنية ومنع الأمن العام من دخول السويداء، خُطِف المحافظ، قُتل رجال الأمن، وتم الاعتماد على مجموعات مسلحة محلية تحاكي بنيويًا تجربة “الإدارة الذاتية”، لكن تحت عباءة طائفية لا تخطئها العين، بل ترفع أعلامها علنًا عوضاً عن أعلام الوطن، وتنسّق مع جهات خارجية وصلت في بعض الحالات إلى إسرائيل ذاتها!
فهل بعد هذا نلوم الدولة التي لم تبسط سلطتها، أم نلوم من رفضها حين أرادت أن تبسطها؟
وهل نطالب الشعب السوري أن يتعامل مع السويداء كجزء من الوطن، في الوقت الذي تُصرّ فيه بعض قواها النافذة على أن تكون “استثناءً سياديًا” خارج سلطة الدولة؟
الوطن ليس معطفًا نرتديه في البرد، ونخلعه ساعة الدفء… بل هو الجلد الذي إن سلخناه متنا..
الوطن ليس مأوىً نختبئ فيه من المطر ثم نغادره حين تشرق الشمس، بل هو التربة التي إن أنكرناها، لفظتنا كما تلفظ الأرض الغريبة أبناءها..
الوطن التزامٌ ومسؤولية قبل كل شيء، والدولة ليست خصمًا، بل هي الضامن الوحيد والجدار الأخير الذي يمنع الفتنة من أن تتحول إلى محرقة.
إن بكاء بعض المثقفين، خصوصًا من أولئك الذين اتخذوا موقفًا سلبيًا من الدولة ومؤسساتها، على ما جرى ويجري من اشتباكات، دون الإشارة الصريحة إلى سببها الحقيقي – وهو غياب الدولة واستبدالها بمرجعيات أهلية ومليشيوية – هو تواطؤ ناعمٌ مع الخراب. وإن استمرار تغليب خطاب الخصوصية على خطاب المواطنة، سيجعل من كل توتر بسيط شرارةً لاحتراب كبير. أما المثقف الحر، فوظيفته أن يقول بوضوح: لا للتمرد على الدولة، لا للطائفية المتغلفة بالخصوصية، ولا لتحويل الأزمات إلى فرصة للابتزاز السياسي.
أيها المثقفون… من يحب وطنه لا يبرر الفتنة، ولا يستسلم لعواطف طائفته ومرجعيته الإيديولوجية والسياسية، بل يسمو بفكره عنها. ومن أراد إنقاذ السويداء، فليدعُ إلى عودتها إلى حضن الدولة، لا إلى تعميق تمردها عليها.
وفي الختام، نقول لكل من ذرف الدمع اليوم، وقد كان بالأمس أحد المصفقين للتمرد والفوضى:
يداك أوكتا وفوك نفخ… فلا تلومنّ إلا نفسك.
14/07/2025