[rank_math_breadcrumb]

الذكاء الاصطناعي ضرورة لا تهديد للإبداع

الابداع والذكاء الصناعي

الذكاء الاصطناعي ضرورة لا تهديد للإبداع

أيمن قاسم الرفاعي

على امتداد التاريخ، لم يكن التطور خصمًا للإنسان، بل كان مرآته الأصفى. فكلّما اخترع الإنسان أداةً تُيسّر عليه مشقّة، اكتشف في نفسه طاقةً جديدة تفتح له بابًا آخر من الإبداع.

فهو حين اخترع العجلة لم يضعف، بل وجّه قوّته نحو مضاعفة القدرة على الحمل والتقدّم. فصاحب مهنة الحمال صار صاحب عربة وسائق.

وحين صنع المدفع لم يتراجع عن الشجاعة، بل ازداد وعيه بهول الموت، فصار القتال موقفًا أخلاقيًا قبل أن يكون مهارةً حربية. والجندي ذو الحربة صار قائد مجموعة مدفعية يتقن رياضايات الزوايات والمسافات.
وحين ظهر التلفاز لم يمت الخيال الأدبي، بل ارتقى إلى آفاقٍ جديدة من الدراما والفن الروائي والتمثيل البصري. وحكواتي المقاهي صار مخرج يدير عالما من الدراما.

ثمّ حين جاء الحاسوب لم يتنازل الإنسان عن قدرته على التفكير، بل تحوّل من عقلٍ تذكّري إلى عقلٍ صانعٍ، إذ مكّنته وفرة المعلومات من التوغّل في أعماق الفكرة لا الوقوف على ظاهرها. ومدير المكتبة صار محققا وناقدا ومرجعا في المصادر.

وأخيرًا، حين فتحت الإنترنت أبوابها، لم تقتل الإبداع كما خشي البعض، بل ضاعفت من فرص توليده، وجعلت المقارنة والمنافسة أكثر شراسة وثراء، فانبثقت مدارس جديدة في السرد والفكر والفن.  وصارت الكتابة ليس فقط سطور على الورق بل أصبحت محتوى ناطق مرئي يوصل المعرفة بشتى الطرق والوسائل.

واليوم، يقف الإنسان أمام الذكاء الاصطناعي في موقعٍ مشابه؛ من يراه خطرًا على الإبداع ينسى أن الإبداع هو تفرد  وليس حالة من الشيوع، فهو لا يعيش إلا في التحدي، وأنّ الآلة التي تنتج نصوصًا وصورًا وأفكارًا متشابهة ستدفع المبدعين الحقيقيين إلى كسر هذا التماثل، وإلى ابتكار لغةٍ جديدة ومجازٍ جديد لفنون جيدة كلياً ووعيٍ يتجاوز قدرة الآلة ذاتها على التقليد. فالتطور لم يكن يومًا خطرًا على الإنسان، بل امتحانًا له، إذ تُعلن الأدوات عن آفاق تطور جديد للإنسان بقدر ما تكشف عن معدنه الأخلاقي.

وهنا يكمن جوهر القضية: الخطر لا يقيم في نجاح الأدوات، بل في امتحان الأخلاق الذي يرافقها دائمًا. فالأدوات — مهما بلغت من دقةٍ ودهاء — لا تُحسن ولا تُسيء بذاتها، إنما تكشف ما خفي في الإنسان من نيةٍ ومقصدٍ واتجاه. ذلك هو السؤال الأزلي للإنسانية منذ امتحان آدم الأول، حين اكتشف العلم لأول مرة ووقف أمام شجرة المعرفة بين الطاعة والرغبة، بين الأمانة والأنا، بين الوعي والاستهلاك، (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا – 115 طه). وما تغيّر منذ ذلك اليوم إلا شكل الشجرة، أما الامتحان فباقٍ: هل يرتقي الإنسان بأدواته نحو إنسانيته لخلق الإنسان السامي، أم ينحدر بها نحو عبوديته لما صنع متجرداً من الأخلاق في إخفاق متجدد نحو هوة الشيطان.

لذا فإن الذكاء الاصطناعي ليس خطرًا على الإبداع، بل هو ببساطة مرآة جديدة أكثر صفاء تُمتحن فيها إنسانية الإنسان.  فمن جعله عونًا على الوعي صار أذكى من آلته ونقل الإنسانية نحو رحلة جديدة أرقى من الوعي والمعرفة والأخلاق الإنسانية، ومن جعله بديلاً عن روحه صار أضعف منها وظل في قعر الحضارة كرفث تاريخي بين عوادم الأخلاق.

وهكذا تظلّ القاعدة ثابتة عبر العصور: الخطر يبقى دائمًا في امتحان الأخلاق لا في نجاح الأدوات، فالأدوات تتقن عملها دومًا، أما الإنسان وحده من يُمتحَن بقدرته على أن يظلّ إنسانًا، كلّما ازداد ذكاءُ ما حوله.

الدوحة 18/10/2025

Scroll to Top