السياسة كفنّ المستحيل: هل يمكن للحكم أن يكون أخلاقيًا؟
نور تركي عباس
منذ أن بدأ الإنسان في تنظيم مجتمعه، كان الصراع بين الأخلاق والسياسة أحد أبرز الإشكاليات الفلسفية التي لم تُحسم. فمن جهة، يرى البعض أن السياسة لا يمكن أن تستقيم دون الالتزام بالقيم الأخلاقية؛ ومن جهة أخرى، يعتبر الواقعيون أن الحكم يتطلب البراغماتية، حيث تكون القرارات قائمة على المصالح والاستراتيجيات أكثر من كونها انعكاسًا لمُثل أخلاقية ثابتة. السؤال هنا ليس فقط هل يمكن أن يكون الحكم أخلاقيًا، بل هل يستطيع الحاكم التمسك بالأخلاق دون أن يفقد السلطة أو فعالية القرار السياسي؟
لفهم هذه الإشكالية، لا بد من العودة إلى الأساس الفلسفي للعلاقة بين السياسة والأخلاق، والنظر في التجارب السياسية التي حاولت تحقيق هذا التوازن، ثم استكشاف السيناريوهات المستقبلية التي قد تفتح الباب أمام إعادة تعريف هذه العلاقة.
الأخلاق في الفكر السياسي: من أفلاطون إلى فوكو
تاريخ الفلسفة السياسية مليء بمحاولات الجمع بين السياسة والأخلاق، لكنه أيضًا يكشف عن الهوة العميقة بين المثالية والواقع. إذ تصور أفلاطون، في “الجمهورية”، مجتمعًا مثاليًا يحكمه الفلاسفة، حيث يكون الحكم مستندًا إلى العدالة المطلقة، وليس إلى المصالح المتغيّرة. على العكس من ذلك، رأى أرسطو أن السياسة هي فنّ تحقيق الخير العام ضمن حدود الممكن، حيث لا بدّ من مراعاة الطبيعة البشرية والتوازنات الاجتماعية.
عند الانتقال إلى عصر النهضة، نجد مكيافيلي في كتابه “الأمير” يفكّك هذه المثالية تمامًا، مؤكدًا أن الحاكم يجب أن يكون مستعدًا لاستخدام القوة والخداع للحفاظ على السلطة والاستقرار. هنا، تصبح السياسة ميدانًا عمليًا بعيدًا عن المثاليات، حيث تكون الغاية تبرّر الوسيلة. على النقيض من ذلك، يأتي جون رولز في القرن العشرين ليطرح مفهوم “العدالة كإنصاف”، مؤكدًا أن الأنظمة السياسية يجب أن تبنى على مبادئ أخلاقية تضمن حقوق جميع الأفراد، لا على المصالح الآنية للحاكم.
أما في الفكر الحديث، فقد ذهب ميشيل فوكو إلى أبعد من ذلك، مشيرًا إلى أن السياسة ليست فقط مفصولة عن الأخلاق، بل إنها توظّف الأخلاق كأداة للهيمنة. وفقًا لفوكو، فإن الحكومات تستخدم خطاب العدالة والقيم الأخلاقية لتبرير قرارات تصبّ في مصلحة السلطة، مثل التدخلات العسكرية أو السياسات الأمنية.
إذن، هل يمكن أن يكون الحكم أخلاقيًا؟ أم أن الأخلاق تُستخدم كأداة سياسية لتحقيق غايات أخرى؟
الواقعية السياسية: هل الأخلاق تُضعف الحكم أم تعزّزه؟
أحد أبرز التحديات التي تواجه السياسيين اليوم هو المفاضلة بين اتخاذ قرارات أخلاقية والمحافظة على السلطة والنفوذ. يبدو أن العالم الحديث يُعيد إنتاج النموذج المكيافيلي بشكل متكرر، حيث يُبرَّر التخلي عن الأخلاق بالحفاظ على الاستقرار أو المصلحة القومية. يمكن رؤية ذلك في السياسات الاقتصادية، التي تفضّل أحيانًا دعم الشركات الكبرى على حساب العدالة الاجتماعية، أو في القرارات العسكرية التي تُبرَّر بمصطلحات مثل “الأمن القومي” و”السلام العالمي”، رغم آثارها المدمّرة.
لكن هل يمكن أن يكون الحكم الأخلاقي أكثر فعالية من الحكم البراغماتي؟ تشير بعض الدراسات الحديثة إلى أن الأنظمة التي تبني سياساتها على العدالة والشفافية تحظى بثقة شعبية أكبر، مما يعزز استقرارها على المدى الطويل. هذا يطرح معضلة جديدة: هل تكون السياسة الأخلاقية أكثر استدامة، أم أن البراغماتية تظل الخيار الأكثر واقعية للحفاظ على السلطة؟
السياسة الدولية: الأخلاق كخطاب أم كمبدأ؟
على المستوى الدولي، نجد أن الأخلاق تُستخدم غالبًا كأداة دبلوماسية، فالدول تتحدث عن “حقوق الإنسان”، لكنها في الوقت نفسه تعقد تحالفات مع أنظمة تنتهك هذه الحقوق، كما تُبرر التدخلات العسكرية باسم “نشر الديمقراطية”، لكن الواقع يكشف عن مصالح استراتيجية خلف هذه العمليات.
تُظهر السياسة الخارجية كيف يمكن توظيف الأخلاق لأغراض براغماتية. لكن هل يمكن أن تكون هناك دبلوماسية قائمة على الأخلاق الحقيقية، أم أن السياسة الدولية محكومة بالمصالح فقط؟ في العقود الأخيرة، ظهرت مفاهيم مثل “القوة الناعمة”، التي تعتمد على التأثير الثقافي والقيمي بدلًا من القوة العسكرية. هذا قد يشير إلى أن الدول يمكنها تحقيق نفوذها بطريقة أكثر أخلاقية، لكن يبقى السؤال: هل هذه القوة الناعمة تُستخدم لتعزيز القيم، أم أنها مجرد وسيلة أخرى لفرض الهيمنة؟
هل يمكن بناء نظام سياسي أخلاقي؟
إذا كانت السياسة محكومة بالبراغماتية، فهل هناك إمكانية لبناء نظام سياسي يحترم الأخلاق دون أن يفقد فعاليته؟ هناك تجارب دولية حاولت تحقيق هذا التوازن، مثل الدول التي تعتمد على الشفافية والمساءلة، حيث يكون المسؤولون عرضة للمحاسبة في حال تجاوزوا الحدود الأخلاقية. لكن يبقى التحدي الحقيقي هو كيفية ضمان أن هذه الأنظمة لا تتحول إلى مجرد أدوات رمزية، بل تصبح فعلًا آليات تحكم عادلة ومستدامة.
ختامًا، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن أن يكون الحكم أخلاقيًا دون أن يفقد فعاليته؟ الإجابة ليست مطلقة، لأن السياسة ستظل دائمًا في حالة شدّ وجذب بين المثالية والواقعية. ربما يكون الحل في البحث عن أنظمة تُحقق الحد الأدنى من العدالة، دون أن تسقط في فخ البراغماتية المطلقة.
السياسة ليست مجرد لعبة قوة، بل هي أيضًا انعكاس لرؤية المجتمعات لما هو ممكن وما هو مستحيل. وبينما يبقى الحكم المثالي بعيد المنال، فإن السعي نحو سياسة أكثر أخلاقية سيظل ضروريًا لضمان مستقبل يكون فيه الإنسان، وليس المصالح فقط، في قلب المعادلة السياسية.