حين أبكت غزة أوروبا، وأبكمت العروبة: سنة الاستبدال بين يقظة الضمير وموت الوعي
أيمن قاسم الرفاعي
ما يحدث اليوم في شوارع أوروبا ليس مجرد احتجاجٍ على مجازر إسرائيل التي طالت وتمادت في غزة، بل هو يقظةُ ضميرٍ إنسانيٍّ كاد أن يُدفَن تحت ركام مصالح الساسة، فإذا بالشعب يثور على نفسه قبل أن يثور على الظلم وحاكمه. شعوبٌ خرجت من صمتها لتقول لحكوماتها: “لسنا أنتم”.
أما نحن العرب، فصمتُنا الذي تحول إلى بكم مفلس، لا يحتاج إلى تفسيرٍ سياسي، بل إلى تشريحٍ أخلاقي.
أولًا: أوروبا التي تريد أن تكون إنسانًا ولو متأخرًا
حين امتلأت الساحات الأوروبية بملايين المحتجّين، لم يكن ذلك دفاعًا عن دينٍ ولا قومٍ ولا لغةٍ، بل عن معنى الإنسان المهدور. رأينا وجوهًا لا تعرف غزة على الخريطة، لكنّها تعرف الألم حين تراه، وتعرف الظلم حين يُعرض على الشاشات. لقد انتصرت هذه الشعوب على خوفها، على رواية حكوماتها، وعلى آلة الإعلام التي ربّتها على تحيّزٍ صهيونيٍّ مُزمن لعقود خلت.
إنها لحظةٌ نادرة في التاريخ: أن ينهض الغرب من خدرِ أنانيته، فيتعلم من الضحية معنى الحياة. فالشعوب الأوروبية اليوم لا تساند غزة بقدر ما تُطهّر نفسها من تاريخٍ مثقلٍ بالاستعمار وتبعاته، ومن حاضرٍ مثقلٍ بالنفاق السياسي والتحيز الرسمي وآثاره. هي لا تدعم الفلسطينيين فقط، بل تُقاوم عارًا حضاريًا أدركته حين رأت الطفل المحاصرتجويعاً ورعباً يرفع رأسه أخيه المقطوع ظلماً أعلى من عواصمها كلها.
ثانيًا: العرب الذين صمتوا حتى على أنفسهم
في الضفة الأخرى من البحر، كانت الشعوب العربية تنظر سابقاً بصمتٍ إلى صرخات أطفالها تُترجمها ألسنةٌ أوروبية. أما اليوم فلم يعد الصمتُ عجزًا، بل بكماً خانقاً. شعوبٌ عرفت أن الكلمة قد تُكلّفها حريتها، وأن الموقف يُقاس بميزان الأجهزة الأمنية لا بميزان الضمير. لقد اختُزلت الأمة إلى جماهير مكمّمة، أُقصيت عن القرار، وفُصلت عن وعيها الجمعي، حتى باتت تنتظر من غيرها أن يُعبّر عنها.إن مأساة العرب ليست في ضعفهم العسكري، بل في فقدانهم المعنى، حين صار الدفاع عن المظلوم تهمة، والنطق باسم العدالة جريمة.
العرب اليوم لا يفتقدون الشجاعة، بل الحياة حقاً، ولا يفتقدون الحمية، بل الإنسان حقيقة. أما الأنظمة، فهي التي ارتاحت في ظلّ موت الضمير الجمعي، حتى غدت القضايا الكبرى تُدار بخطابٍ باردٍ يزن الكلمة بميزان السوق لا بميزان الحق.
ثالثًا: المفارقة السننية بين وعيٍ يُستعاد ووعيٍ يُستبدل
هنا تتجلى سننية التاريخ التي لا تُحابي أحدًا: من خذل المظلوم استُبدل، ومن صدع بالحقّ استُعمل. وحين يغيب الوعي في أمةٍ كانت شاهدةً على الحق، يُبعث في أمةٍ أخرى اضطلعت بالحق ولبت نداءه، هكذا يُعيد الله توزيع الأمانة حين تُهملها الأيدي المفرطة.
لقد شهدنا قانون الاستبدال يعمل على مسرح الحضارة: الأوروبيون الذين كانوا رموز القهر والاستعباد، يستعيد أبناء منهم اليوم جذوة الضمير، والعرب الذين حملوا النور، ورغم خبوا حضارتهم حافظوا على قبس القيم في صدورهم ومبادئهم، يطفئون قناديلهم بأفواههم، ويفقأون عيونهم بأيديهم.
لكن هذا لا يعني أن الرسالة ماتت، بل غادرتهم لتسكن فيمن يقوم بها. فالحقّ لا يتيم، إنما تتيم الأمم عنه حين تفرّط فيه.
رابعًا: الملحمة التي أعادت تعريف الإنسان
ما يحدث في غزة ليس حربًا فقط، بل اختبارٌ كونيٌّ للضمير الإنساني: من يملك الشجاعة أن يرى، ومن يملك الجرأة أن يسكت. الملحمة الفلسطينية صارت مرآةَ الأرض، يُطلّ فيها الإنسان على حقيقته: هل ما زال حيًّا؟ أم صار رقمًا في خبرٍ عابر؟ أم شاهدة على قبر يسير بصاحبه.
إن الذين خرجوا من أوروبا لم يأتوا لنصرة العرب، بل ليُنقذوا إنسانيتهم من الغرق في صمتٍ شبيهٍ بصمتنا. لقد فهموا — ولو متأخرين — أنّ السكوت على الدم يُورّث الموت قبل العار، موت والإنسان وعار الإنسانية.
أما نحن العرب، فقد خسرنا المعنى ونحن نُدافع عن الشكل ونخون الجوهر، وخسرنا الصوت ونحن نحسب الكلمات على أوزان المصلحة، ونسينا حكمة الحياة حين انتزعنا حناجرنا كي لا تخون خوفنا، لأن الحكمة التي تحيينا هي أن يُنطق الصمت حين يُهان الحقّ.
خامسًا: في فيزياء الوعي وسنّة الاستبدال
الوعي لا يموت، لكنه يُهاجر. وحين تُغلق أمةٌ أبوابها في وجهه، يدخل من نوافذ أمةٍ أخرى. هكذا تعمل السنن الإلهية في تاريخ البشر: الرسالة لا تُدفن، بل تُستبدل. قال الله تعالى: «وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ» (محمد: 38)
فمن تولّى عن كلمة الحقّ خوفًا، ابتلاه الله بمن يقولها جهرًا باسمه. ومن باع صوته للحاكم، تركه الله يسمع صداه من أفواهٍ أجنبيةٍ تُعيد للحقّ لسانه.
خاتمة: بكاء الحجر ونداء الإنسان
أواه.. أواه..
غزة تُعلّمنا كل يوم أنّ الجرح قد يصير منبرًا، وأنّ الميت فينا ليس الجسد الممزع منها، بل الضمير المسجى فينا. وأوروبا التي كنا نظنها باردةً كالثلج، ظهرت أنها أدفأ قلوبًا من عواصمٍ تُصلي وتصوم وتصمت.
ما أبكى الحجر في غزة ليس القصف، بل أنين المعنى وهو يُغتال على أيدي من حملوه. لقد انتصرت غزة على القهر،
وانتصرت أوروبا على روايتها، وهزمنا نحن تحت نعال خوفنا القلق.
و لنعلم دوماً، أنه مادام في الأرض من يبكي على المظلوم، فإن السماء لم تُغلق بعد أبوابها.
لكن حين يبكي الحجر… ويصمت الإنسان… فذاك هو الخسران المبين.