قانون الصدمة السننية
من مغالطة التفجير إلى ناموس التحويل
أيمن قاسم الرفاعي
يرى أنصار مغالطة “قنبلة التطهير”، كما أظن التسمية الصحيحة، أن النهضة لا تنشأ إلا من دمارٍ شاملٍ يهزّ الأمم هزًّا، وأن الشعوب لا تتغيّر إلا إذا فُجِّرت أوصالها لتبدأ من الصفر. لكن هذا التصور، وإن بدا حادًّا وصادمًا، لا يبرح يجند الأفكار والحوادث والقصص لصوابه، إلا أنه يقوم على جهلٍ بالسننية القرآنية؛ فالله لا يُنشئ وعيًا من فراغ، بل يُفعِّل قوانينه داخل البنية القائمة لتعيد بناء ذاتها من الداخل. ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ١١٧﴾ هود. فالمجتمع الذي لا يزال يحمل بذور الإصلاح لا يُدمَّر، بل يُنبه ويُهزّ ليُستنهض.
إن الصدمة المادية تفني الأجساد لتخلق فراغًا في الوعي، أما الصدمة السننية فتهزّ الوعي لتخلق فراغًا في الأوهام، فتُتيح للمجتمع أن يرى ذاته من جديد. هي لا تحتاج لقنبلة، بل لحدثٍ يكشف المفارقة بين الواقع والقانون: لحظةٌ تتكثّف فيها الحقيقة حتى لا يعود تجاهلها ممكنًا.
في ميزان السنن، الصدمة السننية تعيد تعريف المعنى قبل أن تعيد بناء الواقع. فما قيمة إعادة إعمار المدن إن لم يُعَد إعمار العقول معها؟ لهذا كانت سنّة الصدمة في القرآن تُدار بالعِبرة لا بالعَبرة: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ١٣٧﴾ آل عمران. الغاية ليست مشاهدة الأطلال، بل إدراك النمط الذي أوصلهم إليها.
لذلك الصدمة السننية ليست عاصفةً تمرّ، بل أداة وعيٍ متكرّرة تعمل كلّما تعطّل القانون في الإنسان. وظيفتها الأساسية: كسر الجمود المعرفيّ دون كسر البنية الوجودية. وتتحقق فاعليتها حين تُستخدم لإعادة ترتيب العلاقة بين الإنسان والفعل لا لإعادة توزيع الخراب. آليّاتها الرئيسة:
- الانكشاف – أن يُعرَّى الخلل دون تجميل:
﴿ أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ١٢٦﴾ التوبة.
- الحديبية (6هـ): صدمة توقيع صلحٍ يُظنّ أنه مُجحف، كشفت فجوة الإدراك بين “رمزية النصر” و“قانون النفع”، فأعادت تقييم الأولويات وأثمرت فتحًا قريبًا (الفتح: 1، 27).
- أزمـات سلاسل التوريد الحديثة: كشفت لمجتمعاتٍ كثيرة أنها مستهلكة أكثر منها منتجة، فأطلقت برامج تموضع صناعي محلي (Import substitution)؛ هذه ليست نهضة بحدّ ذاتها، لكنها انكشافٌ بنيويّ يُمكّن الخطوة التالية.
- التمحيص – أن يُختبر الإيمان بالمبدأ في غياب النتائج:
﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ 140 – 141﴾ آل عمران. وظيفة صدمة التمحيص: غربلة النوايا، لا تصفية الأشخاص.
- مرحلة ما بعد الهجرة: مجتمع المدينة تعرّض لتمحيص متواصل (مقاطعة، غزوات، منافقون)، فأُخرج من البنية صفٌّ صادق وبرز “نِظام الانضباط” (الأنفال: 45–46: الثبات، الذِّكر، الطاعة، الصبر).
- لجان الحقيقة والمصالحة (جنوب أفريقيا): نموذج صدمةٍ مُدارة تُمحّص الدوافع وتمنع دائرة الانتقام، فتميّزت الإرادة الإصلاحية بالرغبة في عدم التشفي؛ من خلال غربلة أخلاقية لتأسيس تعاقدٍ اجتماعي جديد دون هدمٍ مادّي شامل.
- إعادة المعايرة – وهي لبّ الصدمة السننية:
﴿إِذۡ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلٗاۖ وَلَوۡ أَرَىٰكَهُمۡ كَثِيرٗا لَّفَشِلۡتُمۡ وَلَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ * وَإِذۡ يُرِيكُمُوهُمۡ إِذِ ٱلۡتَقَيۡتُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِكُمۡ قَلِيلٗا وَيُقَلِّلُكُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِهِمۡ لِيَقۡضِيَ ٱللَّهُ أَمۡرٗا كَانَ مَفۡعُولٗاۗ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ 43 – 44 ﴾الأنفال. هذا هو جوهر “المعايرة”: إصلاح ميزان الإدراك لتتحرّر الطاقة من رُهاب الكمّ.
- معركة بدر: حين يتبدّل ميزان الإدراك، فتنقلب الأولويات و يصُحِّح الإدراك، لا الواقع، فكانت الصدمة ضبطًا إدراكيًا أنتج ثباتًا فعليًا.
- نماذج التحوّل المؤسسي المعاصر: شركات/دول انتقلت من ملاحقة الحجم (Scale) إلى تركيز القيمة الحرجة (Core competency) لتنجو من الأزمات؛ مثالها الانتقال من تنويعٍ مَرَضي إلى تقليلٍ استراتيجي (Strategic Focus). هذه تطبيقات عملية لـ“تحييد الكمّ وتفعيل الكيف”.
- التوليد – حين يتحوّل الوعي من ردّ فعلٍ إلى فكرٍ جديدٍ ينشئ نظامه:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ 11﴾ (الرعد. التوليد يبدأ حين تتحوّل الصدمة إلى قرارٍ ذاتيٍّ ببناء نسقٍ جديد.
- بناء الدولة النبوية: صدمة الاضطهاد المكيّ ولّدت نسق المدينة (ميثاق، سوق، مسجد/جامعة، أخوّة، قضاء)، إنتاج مؤسسي من “اهتزاز” سابق.
- إصلاحات ما بعد الأزمات (غير الهدّامة): إطلاق مدارس ومناهج ومؤسسات معرفة بعد هزّات اقتصادية/صحية (مثال: أنظمة صحية وتعليم رقمي ومرونة سلاسل إمداد بعد صدمات غير حربية) — انتقال من ردّ الفعل إلى تصميم منظومة.
لذلك، ولكي تتحول الصدمة السننية من مفهومٍ إلى أداة، يجب أن تُدرَك ضمن ثلاث دوائر مترابطة تشكّل “منهج الوعي المتحرك” في النهضة:
| الدائرة | الوظيفة | الأداة التطبيقية |
| المعرفية | كشف الانحرافات في بنية الفكر والخطاب | التحليل السنني للأحداث بدل التفسير التآمري |
| الأخلاقية | تنقية النية الجمعية من دوافع القوة أو الغرور | التمحيص القيمي عبر النقد الذاتي الجماعي |
| الإجرائية | تحويل الوعي المكتسب إلى قرارات بنائية جديدة | إصلاح السياسات عبر “قانون بدر”: تحييد الكم وتفعيل الكيف |
بهذه الطريقة، تصبح الصدمة السننية منظومة اشتغال، لا مجرد عظة. فهي تصنع “تغيير النسق” دون أن تهدمه.
من يؤمن بضرورة الصدمة المادية يطلب التغيير السريع ولو بثمن الإبادة؛ لكن الله جعل السنن تعمل بالتدرّج لا بالنسف، لأن التغيير الحقيقيّ لا يكون ما لم يتغيّر النظام الداخليّ للوعي. الفرق بين القنبلة والسنّة أن الأولى تخلق الفناء، والثانية تُفني الوهم. “كذلك نُصرّف الآيات لعلهم يرجعون” (الأعراف: 174). التصريف هنا تكرارُ الصدمات المعرفية لا القنابل المادية، كي يتعلّم الإنسان من الاهتزاز قبل أن يسقط في الانهيار. فالصدمة السننية أداة “إعادة الوعي قبل فوات الأوان”، وهي البديل القرآنيّ الأخلاقيّ عن كل نظريات “الهدم الخلاّق أو الفوضى الخلاقة” التي يقدّسها الفكر الغربيّ.
قانون الصدمة السننية:
كلّما جمد الوعي عن إدراك السنن، فعّلت السماء قانون الصدمة ليوقظه؛ فإن وُظّفت الصدمة كأداةِ مراجعةٍ وتحليلٍ وتخطيطٍ جديد، ولّدت نهضة؛ وإن أُهملت حتى صارت انفجارًا ماديًا، أعادت الدمار نفسه بثوبٍ جديد.
الخلاصة:
النهضة لا تحتاج إلى رمادٍ جديد، بل إلى نظام وعيٍ جديد. فمنطق السنن يقول: إن أعظم الانفجارات لا تخلق وعيًا إن لم تسبقها صدمةٌ في الإدراك، وإنّ أصغر الاهتزازات تكفي لصنع نهضةٍ إذا وُجِّهت بالوعي الصحيح.
ولهذا، فإن الصدمة السننية هي القنبلة القرآنية التي تهزّ دون أن تقتل، وتُسقط النظام المريض دون أن تُفني الحياة،
وتخلق فجرًا لا على أطلال المدينة، بل في قلب الإنسان ذاته.
الدوحة 24/10/2025









