قانون بدر- قانون الإدراك الموجَّه؛ سننية التفاعل بين الوعي والإيمان
أيمن قاسم الرفاعي
ليست معركة بدر مشهدًا عسكريًّا في تاريخ الوحي، بل مختبرًا كونيًّا أُجري فيه تحويل إدراكيّ هائل أعاد رسم العلاقة بين الوعي البشري والسنن الإلهية في المادة والتاريخ.
فالآيات من سورة الأنفال 36 – 51 لا تسجّل حدثًا، بل ترسم نموذج اشتغال الوعي المؤمن واللا وعي غير المؤمن داخل النظام الكونيّ حين يبلغ حدّ الانسجام مع السنن.
]إِذۡ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلٗاۖ وَلَوۡ أَرَىٰكَهُمۡ كَثِيرٗا لَّفَشِلۡتُمۡ وَلَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَۚ إِنَّهُۥ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ (43) وَإِذۡ يُرِيكُمُوهُمۡ إِذِ ٱلۡتَقَيۡتُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِكُمۡ قَلِيلٗا وَيُقَلِّلُكُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِهِمۡ لِيَقۡضِيَ ٱللَّهُ أَمۡرٗا كَانَ مَفۡعُولٗاۗ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرۡجَعُ ٱلۡأُمُورُ[(44) الأنفال.
في هذا البيان القرآني تتجلى سننية الإدراك: الله لم يُبدِّل واقعًا ماديًا، بل بدّل زاوية الرؤية؛ لأن التغيير الحقيقي يبدأ من الوعي الذي يدير الطاقة قبل أن يُمسك بالسيف. فالمعركة لم تكن بين جيشين فحسب، بل بين مستويين من الإدراك:
- إدراكٌ واعي مؤمن؛ موصول بالمعرفة الكونية والسننية.
- وإدراكٌ غير واعي غير مؤمن؛ حبيس المقاييس المادية والمشاعر المتوترة.
إذ أن الإدراك في القرآن ليس انفعالًا بالحواسّ، بل مُحرّكٌ ضمن منظومة السببية نفسها. فحين يُطهَّر وعي الإنسان من شوائب الخوف والظنّ يصير الإدراك نفسه قوةَ استدعاءٍ للسنن، وحين يلوث بخبث الظنون رفث الخوف يصير الإدارك نفسه قوة استعداء للسنن.
وهذا ما يلتقي مع ما كشفه العلم الحديث في فيزياء الكم من أن الراصد يؤثر في سلوك الجسيمات؛ فالملاحظة الواعية تغيّر طبيعة المراقَب.
القرآن سبق هذا الكشف حين جعل الإدراك أداةَ فعلٍ لا انعكاسٍ “وَيُقَلِّلُكُمۡ فِيٓ أَعۡيُنِهِمۡ”؛ أي: أعاد تشكيل المشهد الإدراكي بحيث تُعطّل الطاقة السلبية الناتجة عن الخوف. إنه تحييد إدراكيّ يحرّر الإنسان من أثر الكمّ ليُفعّل قيمة الكيف.
هنا تتأسّس سنة النوعية الواعية: أنَّ القلة التي تمتلك الوعي الكامل بالسنن أقدر على تفعيلها من كثرةٍ فاقدة للإدراك. ]… كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ[ (249) البقرة.
والإذن هنا ليس استثناءً خارقًا، بل تفعيلٌ سننيّ يُستثار عند بلوغ الوعي حدَّه. فالإيمان في بارادايم القرآن ليس تصديقًا غيبيًّا، بل انكشاف بصيرةٍ على طبقات السنن الخفية في الواقع. إنه رؤيةٌ نافذة تجعل المؤمن يتعامل مع العالم كامتدادٍ للقدرة الإلهية، لا كجدارٍ صلدٍ منفصل عنها.
ومن هنا تصبح النية الواعية والإيمان الصادق جزءًا من منظومة الأسباب المادية ذاتها. الإيمان لا يخرق القوانين، بل يغيّر معادلاتها عبر إعادة توزيع أثرها.
كما أن الإدراك الواعي يفعّل السنن في اتجاه التيسير، فإن تخلخل الإيمان يفتح مسارًا سننيًّا نقيضًا: يُربك الإدراك، ويشوّه قياس الواقع، ويُولّد سلسلة من القرارات المنحرفة التي تُعيد إنتاج الهزيمة. فالقرآن يُظهر أن غياب الإيمان لا يعني فقط فقدان الثقة الروحية، بل اختلال نظام الوعي الذي يتعامل به الإنسان مع قوانين الوجود.
] إِذۡ يَقُولُ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَٰٓؤُلَآءِ دِينُهُمۡۗ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ (49)[ الأنفال
إنها اللحظة التي يتحوّل فيها الإدراك من أداة تفعيلٍ للسنن إلى حاجزٍ يحجبها؛ حيث يَفقد الوعي انسجامه مع الحقيقة فيرى القانون مقلوبًا، فينهار الفعل تبعًا لانهيار الإدراك.
وهكذا يعمل القانون في الاتجاهين:
- الإيمان الكامل يولّد تسخيرًا سننيًا.
- تخلخل الإيمان يولّد ارتدادًا سننيًا يجعل السنن نفسها تُنتج النقيض.
الآيات لا تذكر تدخلًا خارقًا، كما يفيض به التفاسير، بل إعادة توازنٍ بين وعيين: وعيٍ استقرّ في معادلة “النوعية الواعية”، ووعيٍ غارقٍ في معادلة “الكمّ الخائف”.
قانون الإدراك الموجَّه (قانون بدر):
الإدراك حين يبلغ صفاء الوعي الإيماني يتحوّل إلى قوةٍ فاعلةٍ ضمن النظام الكوني، يغيّر توازن الواقع من داخله، فيحيّد أثر الكمّ لصالح الكيف. أمّا إذا تخلخل الإيمان أو اختلّ الإدراك، انعكس القانون ذاته، فتحوّل الوعي إلى عائقٍ والسنن إلى ضدٍّ، لأن الكون لا يتعامل مع النوايا بل مع تردّدات الوعي في انسجامه أو اضطرابه.
بهذا القانون، تُعيد سورة الأنفال تعريف النصر لا بوصفه “منحةً غيبية”، بل نتيجةَ تفاعلٍ بين وعي الإنسان واستجابة الكون له.
فالكون يستجيب للوعي المتناغم، ويقاوم الوعي المشتّت؛ وهكذا يصبح الإيمان اللغة التي يخاطب بها الإنسان السنن، ويصبح الإدراك الموجَّه جسرًا بين عالم الشهادة وعالم الغيب، حيث لا يتغيّر الواقع إلا بقدر صفاء النظر الذي يراه.
الدوحة 24/10/2025









