مجازر الزير سالم والبسوس؛ حين تتحوّل المأساة إلى فرجة
أيمن قاسم الرفاعي
من ملحمة الدم إلى محنة الوعي العربي
تعود قصة الزير سالم وحرب البسوس لتطلّ علينا بين الحين والآخر، في أعمال درامية أو مسرحية ضخمة، كما لو أنّها ملحمة تستحق أن تُستعاد باستمرار. غير أنّ السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه اليوم: ما الذي نكسبه من إعادة إنتاج حكايةٍ لا تحمل في طيّاتها سوى دورة دم لا تنتهي؟
في كل مرة يُعاد فيها إنتاج قصة الزير سالم، يبدو وكأنّ الفن العربي يختار أن ينظر في مرآةٍ مشروخة لا يرى فيها سوى وجهه القديم، غارقًا في ثاراتٍ لا تنتهي، وأحلام مجدٍ تُبنى على رماد الدماء. تتكرر القصة في المسلسلات والمسرحيات والأفلام، وكأنها موروث لا يجوز مسّه، بينما هي في حقيقتها أحد أكثر نصوص التراث إيلامًا: نصٌّ يُنكر الأخوّة والإنسانية، ويُحوّل الحياة إلى دورةٍ من الانتقام العبثي الذي لا غاية له إلا الفناء.
الملحمة التي أنكرَت الإنسان
قصة الزير سالم (عدي بن ربيعة التغلبي أبو ليلى المهلهل) ، بل قل حرب ناقة البسوس خالة جساس، ليست حكاية فروسية كما يُروّج لها، بل تجسيد لمرضٍ حضاريٍّ عميق أصاب الوعي العربي قبل الإسلام: العصبية التي تقتل باسم الكرامة، والهيبة التي تُقدَّم على الحق، والفخر الذي يُبنى على أنقاض الروح.
إنها ملحمةٌ ترفع راية القوة فوق راية القسط، وتجعل من الثأر دينًا ومن الحرب طريقًا للخلود. وفيها تتجلّى تلك المفارقة المأساوية: أن البطل ينهزم في اللحظة التي يظن فيها أنه انتصر، فهو ينتصر على خصمه، لكنه يهزم إنسانيته، ويحرق ما تبقّى من معنى الدم والقرابة والرحم.
ولهذا، فإنّ الزير سالم لا يمكن أن يكون رمزًا للعزّة، بل شاهدًا على ضياعها. هو بطلٌ تآكله الهوى، وانتصرت عليه ذاته، حتى تحوّل إلى مرثيةٍ طويلة لقيمٍ غابت حين غاب العقل، وساد منطق الدم.
حين تُحوِّل الدراما المأساة إلى فرجة
الخطر لا يكمن في القصة وحدها، بل في الطريقة التي تُقدَّم بها. فالفن الذي يعيد رواية حكايةٍ دموية دون مساءلةٍ أخلاقية، إنما يعيد إنتاج الخراب في وعي الناس. حين تُقدَّم حرب البسوس بموسيقى ملحمية وصهيل خيولٍ وحماسةٍ لغوية، فإنها تُغذّي في اللاوعي الجمعي قيمًا نحتاج إلى تجاوزها لا تمجيدها: قيمة الانتقام، واستحلال العنف، والخلط بين الشجاعة والغضب.
الدراما التي لا تُعرّي عبثية الدم، تتحول إلى أداة تطبيعٍ مع العنف، تُجمّل القبح وتُقدّمه في ثوب البطولة. وهذا ما يجعل أغلب الأعمال التي تناولت الزير سالم، رغم جودتها التقنية، فقيرة المعنى: جميلة في الصورة، فارغة في الرسالة.
فالفن، حين يتخلّى عن مسؤوليته النقدية، يتحوّل إلى زخرفٍ فوق الهاوية؛ وحين ينسى أن يسائل، يفقد قدرته على أن يُنير.
من الزير إلى ذي قار: الفارق بين الدم والكرامة
في ذاكرة العرب مشهدان متقابلان: مشهد حرب البسوس التي اشتعلت من أجل الثأر، ومشهد معركة ذي قار التي ثارت من أجل الكرامة. الأول صراع داخليٌّ أكل جسد القبيلة، والثاني صرخة تحرّر في وجه الاستعباد، الأول فناءٌ باسم المجد، والثاني ميلادٌ باسم الحرية.
إنّ معركة ذي قار ليست بطولية لأنها انتصارٌ عسكري، بل لأنها لحظةُ وعيٍ جماعيٍّ بالكرامة، تحوّل فيها السيف من أداةٍ للثأر إلى أداةٍ للدفاع عن حقٍّ إنسانيٍّ عادل. هنا يكمن الفرق بين «ملحمة الدم» و«ملحمة الوعي»:،؛ الأولى تُعيد إنتاج الماضي في دوّامة الثأر، والثانية تفتح أفق المستقبل بمعيار القسط.
الفن كفعل خلاص
إنّ الفن الذي نحتاجه اليوم ليس ذلك الذي يلمّع رماد التاريخ، بل الذي يفكّك رموزه ويحرّرها من عبودية العصبية.
فنٌّ يجرؤ على مساءلة الزير سالم لا تمجيده، ويكشف أنّ كل انتصارٍ بلا عدلٍ هو هزيمةٌ مؤجلة. فنٌّ يقدّم الزير في آخر أيامه لا كمقاتلٍ فخور، بل كإنسانٍ تاه في دمائه حتى لم يعد يعرف لماذا يقاتل. فنٌّ يعيد موته لا بوصفه نهاية بطل، بل نهاية مرحلة من الوعي العربي ينبغي أن تُدفن بكرامة.
بهذا فقط يتحول الفن من أداة تسلية إلى أداة خلاصٍ حضاري، من إعادة تمثيل الماضي إلى إعادة فهمه، من تقديس الذاكرة إلى بناء الوعي.
خاتمة: من «الهيبة» إلى «القسط»
إنّ استمرار تمجيد الزير سالم في الدراما العربية بعد كل ما عاشته الأمة من انكساراتٍ أخلاقية وحضارية، هو علامة على أننا ما زلنا نبحث عن أنفسنا في مرايا الدم. إنه تمجيدٌ لمرحلة ما قبل النضج الإنساني، حيث كان الصوت الأعلى للسيف لا للعقل، وللثأر لا للميثاق.
لقد آن لنا أن نعيد قراءة تراثنا لا من موقع الإعجاب الأعمى، بل من موقع المسؤولية الحضارية. فليست البطولة فيمن أشعل الحرب، بل فيمن أطفأها؛ ولا المجد فيمن غلب خصمه، بل فيمن غلب نفسه.
وعندها فقط، حين يتجرأ الفن العربي على إعلان وفاة الزير سالم بوصفه رمزًا، سنكون قد بدأنا الخروج من «ملحمة الثأر» إلى «ملحمة الوعي»، ملحمة الإنسان الذي انتصر على الدم، وحرّر روحه من عبودية الهيبة إلى عدالة القسط.