هنا الشآم
بقلم: ايمن قاسم الرفاعي
كان وقبله ما كان، هو الأقدم في أول الزمان، حين قدر له أن يكون، وأن يجري بعجلة الوعي في هذا الكون، ليكون أو لا يكون فذاك هو “التاريخ” حين يولد الزمان في حدود اللامكان.
صمت وسار دهراً، فغاص فكراً، لم يَشأ أن تكونَ أولى كلماته هذراً، خزياً أو كفراً، بل أرادها سحراً، نثراً وشعراً، مجداً وفخراً، فهزَّ كتفيه وشمَّر، وحمل معوله وكبَّر، وانتخب من بذوره الأقدر، ففلح وزرع وعمَّر، فانبت وأشطا وأزْهر، فكانت أولى غراسه النُّضَّر، وذات أورفِ ظلالِ شجرةِ حضارةٍ بين الشجر.
نثرَ لآليهِ ودررهُ مدناً حاضرةً فوق صفحات وجهها الأسمر فزينها بأبها الشآم، وتوج جبينها بياقوتةٍ كالقلب أسماها “دمشق الشام”، شق بمعاول الزمن الغابر عروقاً وأوديةً أسالت في جسدها أكسير جمال وحياة، بطعم بردى والعاصي ودجلة والفرات. طرز وشاح رأسها بقطوف النرجس والزيزفون، وكللها بتاج من الغار المعقود بالزيتون. رطب جدائلها وخصلات شعرها اللوزية بعطر النارنج والياسمين والليمون، وألبسها عباءة منسوجة من عروق النعناع والريحان والزعتر موشّاة بخيوط مغزولة من ذهب أشعة أول إشراقة للشمس في هذا الكون.
عجن ترابها بدماء الأنبياء والأولياء والقديسين فشكَّل صلصال أُناسها، وجمع غبار زمن قادم سيأتي به سيلوقس وفيليب وابن الوليد وعبد الملك والداخل وصلاح الدين من قسطل غزواتهم وفتوحاتهم فسنَّ به حَمأَ رجالها، وعرج إلى الجنة فأستأذن رضوانها وملأ دلواً من طيف أنوارٍ تستحم به حور عينها، فصبه في حمام أنوثة فردوسية طفح بها لازب طين نسائها.
اختارتها الأرض قلب العالم فاختارها هو قلب الحضارة، فكانت سويداء قلب الأرض ونفث روح الله في الحضارة. عندما جاع حمل إليها أولى أقماحهِ حباتٍ عذراء لم يطأها من قبل محراث ولم يقطع حبلَ سُرَّةِ أجنَّةِ سنابلها منجل، فتكاثرت في رحمها أولى السنابل وتعلقت بصدرها تميمةُ أول محراثٍ ومنجل.
عزف أولى موسيقاه بقيثارة سومر في إيبلا فأجرى ألحانها مياه تتراقص موزونة في سطور وأقنية درَّجت سلَّم التاريخ دوَّنها ملاحم وأشعار ومرثيات في ألواح ماري.
تعلم الكتابة فيها، فحفر بمسماره صوت أولى حروف أبجدياته في رأس شمرا، فتردَّدَ رَجعُ صداها لغاتٍ دوَّنَتِ مولد التاريخ حين صدح بها في المهد طفل المغارة، فكانت المهد وصار ت البشارة.
سكنها الأنبياء واستوطنها الرسل مذ غادر آدم جنة السماء فكانت له ولذريته جنةً في الأرض، وكانت مهبط الوحي ومبعث الرسلات. من أشجارها صف نوح ألواحه ودَسَرَها ليصنع سفينة الحياة التي حملت منها البشرية في انطلاقتها الثانية. إليها هاجر إبراهيم الخليل وبحطب أشجارها عاش أمتع لحظات حياته في برد وسلام من لطيف جوها سيَّجته نيرانها. كانت الأرض الموعودة لأبناء يعقوب حين اصطفاهم الله وأعزهم فيها لما أعادهم موسى من مصر من بعد ذلة، ومنها طردهم وحرَّمها عليهم حين كفروا بآياته ورسله. بدمائه رواها زكريا ذي المنشار، وبأرضها زرع يحيى الذبيح رأسه لينبت أشجار عطر بطلع رؤوس الكباد.
في مهدها نطق المسيح، فتحدث بلسانها عمن رزق أمه عنبها ورطبها وطَهَّرَ رحمها، غمر كفيه بماء عيونها فصنع خمراً أدارها كأساً تقدست مع طيبات موائدها التي صنعت في مطابخ الجنة لتنال شرف العشاء الأخير فيها. نادى على أنصار الله فلبى من أهلها حواريون حملوا إلى العالم رسالة الله، فعمَّدوا بمائها المذابح وأقاموا فيها أول كنيسة لله، وعلى أخشابها نُحتت فتنة صلبه، ومنها صعد إلى ربه ليقف على شرفات السماء المطلة عليها ينتظر بشوق نزوله عند مئذنة الأموي البيضاء آخر الزمان.
إليها أُسري بمحمد (ص) ليئم أول صلاة للأنبياء إلى قبلتها في أقصى الأقداس تقام، ومنها على البراق إلى سدرة المنتهى عرج في رحلة قدُّوسيَّة حملت إلى الأرض إيمان وإسلام، فباركها الله من فوق سبع سموات وأنزل من بركته قرآن فيها يتلى إلى يوم القيام. غرس الله فيها عامود النور فحفتها الملائكة تبسط أجنحتها عليها ولأهلها، فطوبى لها وطوبى لأهلها وطوبى لمن دخلها بسلام. أوصى بها الرسول أصحابه إذ عز الإيمان في الأرض وجندت الجند وتقاطرت الفتن كقطع الظلام، فحوت أرحام أرضها عشرة آلاف ويزيد منهم، فما انفكت تلد من أصلابهم رجال الفئة المنصورة تلكم الأرحام.
طال الزمان فشاخت الدنيا ولم يزل وجهها فتياً وقدها شهياً طافحاً بالجمال وعابقاً بأنوثة مخملية كما عذراواتها، أعزبٌ من اقترن بأنثى وشطت عنه نسائُها، وجاهل من حاز علماً وما اخترق يوماً حجب أسرارها، وخليفة لأبيه آدمَ في الطرد من حرم عِطرَ أنفاسِ غِيطانها.
يستطيل الزمان في غيرها، وعلى أبوابها يُختصر، ويتوه التاريخ شارداً منسياً في سواها، وفي أزقة حاراتها وخلف أسوار قلاعها يُدَّونُ ويُشْتَهر، في دمشقها فقط كتب ابن عساكر “الثمانون” فأعيا من بعده المؤرخين، وفي حلبها اختصر ابن حماة البلدان بين دفتي “معجم”، ومن غبار الزمن المسجى فوق أحجارها صاغ ابن كثير للعالم رُقمَ “البداية والنهاية”.
هي المتمنعة عصية اليد على جحافل غزاة الطامعين، وهي السهلة لينة القلب لعظماء الفاتحين. هي ثالثة أثافي الملك والحكم، ودرة تاج الملوك وواسطة عقد السلاطين. هي الممكن في استحالة العنقاء، فلطالما تجددت من رمادها بأبهى الحضارات، فخلعت بالي الثوب وارتدت قشيب أثواب السنين. هي طلاسم أسطورة البداية وهي خيول الفتح وركاب ملحمة النهاية، هي أرض المحشر والمنشر، وبساط محكمة رب العالمين.
هي.. هي.. وحدها ولا يشبهها شيء، هي من أعيت التاريخ بحسنها ودلالها وعظمتها، فارتبط اسمه بها لما كانت له مهداً وارتبط اسمها به لما اختارها له لحداً، كتب التاريخ بقلمه عن الحضارات مجلدات ومكتبات، ولما أراد أن يكتب عنها اختصر اسمه بين حروفها، وخط سطراً يحكي سيرتها دون فيه:
من مهد التاريخ وقلب الحضارات… هنا الشآم.
من كتاب (حين يحكي الزيزفون)
رابط النشر:
http://www.zamanalwsl.net/readNews.php?id=38000