[rank_math_breadcrumb]

أثر الزمن في تكوين الهوية: بين التحول والانكشاف

الزمن والهوية

أثر الزمن في تكوين الهوية: بين التحول والانكشاف

نور تركي عباس 

ليس الزمن مجرد سياقٍ تجريدي تتحرك فيه الأحداث، بل هو عنصر جوهري في صيرورة الوجود الإنساني، ومرآة تعكس تحولاتنا الداخلية، وتكشف عن عمق الهوية، وتثير السؤال الأزلي: هل نحن نتغير حقًا، أم أننا في رحلة متواصلة نحو اكتشاف ذواتنا؟ 

إنّ الهوية ليست كيانًا جامدًا، بل نسيجٌ متشابك من التجارب والتأملات، يتفاعل مع الزمن بطرق لا تخضع للثبات المطلق ولا للتحول القاطع، بل تتأرجح بين كشف مستمرٍ للذات وإعادة تعريفٍ لحدودها.  

 الهوية بين التحول والانكشاف: مقاربة فلسفية  

في تأملات الفلاسفة حول الهوية، تنقسم الرؤى بين من يرى الإنسان كائنًا متحولًا بفعل الزمن، ومن يرى أن الذات تحمل في داخلها بذور جوهرها منذ البداية، والزمن ليس إلا كاشفًا لها. أفلاطون، مثلًا، طرح فكرة أن الحقيقة كامنة في العقل، والزمن لا يبدلها بل يساعد في إدراكها، بينما اعتبر هيغل أن الهوية ليست سوى سيرورة جدلية، تتحقق عبر تفاعل الذات مع الواقع، حيث تنشأ المعرفة وتتبلور الشخصية في مواجهة المراحل الزمنية المتعاقبة.  

أما هايدغر، فقدم طرحًا أكثر تداخلًا بين الهوية والزمن، حيث يرى أن “الكينونة” لا يمكن فصلها عن الزمن، وأن الإنسان لا يكتشف ذاته إلا في إطار زمني يحدد معالم وجوده. لكنه لم يضع الزمن في موقع الفاعل المطلق، بل جعله فضاءً تتكشف فيه أبعاد الذات عبر سلسلة من التجارب والتأملات العميقة.  

 كيف يشكل الزمن رؤيتنا لأنفسنا؟  

إن علاقتنا بالزمن ليست مجرد تسجيل للأحداث التي نمر بها، بل هي تفاعل مع تلك اللحظات التي تعيد تشكيل إدراكنا الذاتي، فالتجارب الكبرى كالحزن العميق، والفرح الطاغي، والصدمات الفكرية، والنضوج التدريجي لا تغيرنا بقدر ما تدفعنا للتعمق في فهم أنفسنا، لنكتشف أبعادًا لم نكن نعي وجودها مسبقًا.  

إن مراحل الحياة المختلفة ليست محطات منفصلة، بل هي أجزاءٌ من سردية كبرى ننسجها دون وعي، حيث يعيد الزمن ترتيب صورنا الداخلية وفقًا لما يكشفه لنا من معانٍ كامنة؛ فالشخص الذي كنا عليه في مرحلة الطفولة لا يتلاشى مع النضج، بل يظل جزءًا من البناء النفسي الذي نستكشفه مع تقدم السنوات.  

 هل نحن في حالة تغير مستمر، أم أن اكتشاف الذات هو جوهر التجربة الإنسانية؟  

حين يواجه الإنسان تحولات عميقة في حياته، كخسارةٍ مفاجئة أو تجربةٍ جوهرية تغير نظرته للعالم، قد يشعر بأنه أصبح شخصًا آخر، لكن هل هذه التحولات تعني أننا تغيرنا جوهريًا، أم أنها مجرد إعادة صياغة لذاتٍ كانت موجودة دائمًا في أعماقنا؟ ربما يكون الزمن هو ذلك السردي المتتابع الذي يعيد ترتيب أوجه هويتنا، فنحن لا نتبدل كليًا، بل نعيد تأمل ذواتنا في ضوء التجربة والمعرفة الجديدة.  

هنا يبرز السؤال الأعمق: هل نحن نتشكل بفعل الزمن، أم أن الزمن يمنحنا الأدوات اللازمة لقراءة أنفسنا قراءة أكثر وضوحًا؟ الإنسان كيانٌ معقد، يختزن في داخله طبقاتٍ تتكشف على امتداد العمر، لا نتيجةً لتحولات جذرية، بل بفعل الإدراك العميق الذي يمنحه الزمن للذات المفكرة.  

 ختامًا، ليس الزمن قوةً خارجية تُعيد تشكيل الإنسان وفق مشيئتها، بل هو فضاءٌ يتفاعل فيه العقل مع التجربة، حيث ينكشف للإنسان عمق هويته شيئًا فشيئًا. فالتغير ليس استبدالًا للذات القديمة، بل امتدادٌ للمعرفة التي تتشكل في ضوء التجربة الزمنية. وبين التغير والانكشاف، يبقى السؤال مفتوحًا: هل نحن في رحلة مستمرة نحو بناء ذات جديدة، أم أننا نزيح الغبار عن حقيقةٍ كانت كامنة منذ البداية؟  

أيمن قاسم الرفاعي

Ayman Q. Alrefai

دكتــــــوراة دراســـــات إسلاميـــــة في العلوم السياسية
باحــث متخصـص في مجـال الإدارة والسياســة العامة
مدون وكاتب في مجال الفكر والفن والأدب والقصة والشعر

آخر ما حرر
مقالات ذات صلة
Scroll to Top