الحرب الروسية الأوكرانية: بين تحولات التكتيك وتصدّع النظام الدولي
أيمن قاسم الرفاعي
تمهيد: هندسة مرحلة جديدة من الصراع
منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، والعالم يشهد صراعًا تتداخل فيه المعايير الكلاسيكية للحرب مع أبعاد سيبرانية واستراتيجية غير مسبوقة. غير أنّ العملية الأخيرة التي نفذتها أوكرانيا، باستهداف قاعدة “بيلايا” الجوية الواقعة في عمق سيبيريا، تُعد نقطة تحوّل فاصلة في بنية الصراع، لما حملته من رسائل عسكرية واستخباراتية وأخلاقية. أكثر من أربعين طائرة حربية من بينها قاذفات استراتيجية بعيدة المدى تعرضت للتدمير أو الإخراج عن الخدمة، ما يشير إلى خرق أمني عميق في منطقة كان يُعتقد سابقًا أنها محصّنة من التهديدات.
أولاً: عمق الرسالة الاستراتيجية للعملية
استهداف قاذفات من طراز “Tu-95″ و”Tu-160” لا يُعد مجرد عمل عسكري هجومي، بل هو إعلان رمزي عن قدرة أوكرانيا على اختراق “هالة الردع النووي الروسي”. هذه القاذفات تشكّل عماد قدرة روسيا على شنّ ضربات استراتيجية طويلة المدى، وهي موضوعة تحت بروتوكولات الحماية القصوى.
الضربة الأوكرانية كشفت عن تطور ثلاثي الأبعاد:
- تكنولوجيًا: عبر استخدام طائرات مسيّرة بعيدة المدى قادرة على تجاوز دفاعات معقّدة.
- استخباراتيًا: من خلال تحديد نقاط الضعف اللوجستية.
- دوليًا: حيث يُفترض ضمناً وجود دعم استخباراتي غربي عالي المستوى، ربما عبر الأقمار الصناعية أو الذكاء الاصطناعي العسكري.
وبالتالي، فإن العملية لا تنتمي فقط لساحة المعركة، بل تعيد تعريف مفهوم الأمن الاستراتيجي في القرن الحادي والعشرين.
ثانيًا: الرد الروسي المحتمل ضمن معادلة الرهبة والردع
- تصعيد ميداني شامل: قد توسّع موسكو من ردّها العسكري ليشمل أهدافًا حيوية في أوكرانيا، لا سيما مراكز القيادة والسيطرة، ومستودعات السلاح الغربي. وهذا التصعيد قد يأتي عبر موجات صاروخية كثيفة، أو حتى استهدافات سيبرانية تشلّ البنية التحتية.
- خطاب تعبوي داخلي: ستستثمر القيادة الروسية الحدث لتعزيز خطاب “الحرب الوجودية” أمام الرأي العام الروسي، بما يبرر إجراءات أمنية ومالية جديدة، وربما تعبئة جزئية جديدة.
- تلويح متجدد بالسلاح النووي التكتيكي: وهو خيار لا يزال بعيدًا من حيث التنفيذ، لكن طرحه كأداة ردع نفسي ودبلوماسي بات أكثر حضورًا، خاصة في ظل تآكل خطوط التماس التقليدية بين القوى النووية.
ثالثًا: الخطاب الغربي بين الدعم والتورّط
الدعم الغربي لأوكرانيا قد انتقل، وفق تقارير عدة، من مجرد تسليح دفاعي إلى انخراط استخباراتي مباشر في رسم الأهداف وقيادة عمليات نوعية. هذا التحوّل يضع الغرب أمام معضلتين:
- أخلاقية: حين يُستثمر شعار حقوق الإنسان والديمقراطية في صراع عسكري يُسفر عن مزيد من الضحايا المدنيين.
- استراتيجية: إذ أن تجاوز حدود الدعم التقليدي قد يؤدي إلى انزلاق تدريجي نحو مواجهة مفتوحة مع روسيا، وهو سيناريو لا يملكه أحد، لكنه بات أكثر واقعية مما كان عليه قبل عام.
بذلك، يبدو أن “الحياد النسبي” لم يعد ممكنًا. فالغرب يتحمّل الآن، أمام العالم وأمام شعوبه، مسؤولية المشاركة الفعلية في الحرب، وإن لم يكن عبر جنوده.
رابعًا: أفق النظام الدولي أمام سؤال الفوضى
ما جرى يعيدنا إلى مقولة توماس هوبز: “حين تغيب السلطة الرادعة، يكون الإنسان ذئبًا لأخيه الإنسان”. النظام الدولي ما بعد الحرب العالمية الثانية بُني على توازن رعب نووي، واحترام افتراضي للحدود. اليوم، كل ذلك يتآكل.
أين الأمم المتحدة؟ ما فاعلية القانون الدولي؟ ما حدود التدخل؟ كلها أسئلة تُطرح وسط فراغ أخلاقي متزايد في أداء المنظومات الأممية، وتحوّل مجلس الأمن إلى ساحة عجز مزمن.
التاريخ لا يعيد نفسه، لكنه يكرّر عجزه: حين تهاوت عصبة الأمم، جاءت الحرب العالمية الثانية. واليوم، مع تآكل شرعية مجلس الأمن، من يضمن ألا تأتي حرب عالمية ثالثة؟
خاتمة: منطق القوة أم أخلاق السياسة؟
العملية الأوكرانية الأخيرة ليست فقط استعراضًا لقدرات تكنولوجية وعسكرية، بل هي صفعة لمفهوم الردع التقليدي، وتحذير مرير من أن حدود الجغرافيا لم تعد ضمانًا للأمن.
فإما أن يُستدعى منطق العقل لوقف هذا الانحدار، عبر تسوية واقعية تُعيد الاعتبار للدبلوماسية، أو تستمر المنطقة والعالم في الزحف نحو سيناريوهات أكثر خطورة وتعقيدًا.
إن أخطر ما في المشهد ليس القاذفات المحترقة، بل التصعيد الرمزي الذي يجرّ خلفه صراع إرادات تتشابك فيه الجغرافيا بالتاريخ، والردع العسكري بالأخلاق الدولية.