[rank_math_breadcrumb]

حكاية الشهب

شهب الحكايا

حكاية الشهب

أيمن قاسم الرفاعي

يوماً ما قبل حوالي أربعين ألف سنة على جدران كهوف بين شمال إسبانيا في كهف ديل كاستيلو وجنوب فرنسا في كهف شوفيه، سطّر الإنسان العاقل (إنسان نياندرتال) على تلك الجدران أقدم نصوص نطق بها بشريّ وتمّ اكتشافها حتى الآن. النّصوص قدّمت تصورًا لحياة الإنسان الجامع (إنسان الكهف) خلف قطعان البراري والغابات، حيث أنّ بعض الخطوط الّتي تقاطعت انحناءاتها لتترسّم بتعاريجها على شكل بعض الحيوانات كانت كفيلةً لتنقل لنا الحكايا التي عاشها إنسان الكهف الجامع الصّياد لعشرات بل مئات الآلاف من السنين. لم تكن جدارية كهفي كاستيلو وشوفيه رسماً كما لم تكن كتابةً كذلك بلغة اليوم، بل كانت أوّل ما نطق به الإنسان في تاريخ البشريّة عبّر فيها عن حكاية الإنسان الأوّل، لقد كانت باختصار أقدم قصّة قصيرة لأطول حكاية إنسانيّة في التّاريخ.

يقول ربنا جلّ وعلا (فَوَرَبِّ ٱلسَّمَاۤءِ وَٱلۡأَرۡضِ إِنَّهُۥ لَحَقࣱّ مِّثۡلَ مَاۤ أَنَّكُمۡ تَنطِقُونَ )23 الذاريات، من دون سائر الحقائق والآيات التي مُنحت للإنسان ولا حصر لها، اختار سبحانه فقط آية النطق كدليل على معاني الآيات ومقاصدها في هذا الموضع من سورة الذاريات، كما يعرف أرسطو الإنسان بأنه “حيوان ناطق“، وبحسب منهج بارادايم القرآن[1] في فهم التّنزيل الحكيم؛ فإنّ النّطق والكلام والقول والحديث هي ليست ألفاظ مترادفة كما تستخدم في اللّغة عادة، بل هي مصطلحات لآليّات مختلفة متمايزة فيما بينها وفق التّوظيف المختصّ لها في القرآن الكريم، يستخدمها الإنسان للتّعبير ونقل المعرفة وسرد الحكايا.

 إنّ النّطق: هو فعل أو حدث أو خبر أو معلومة يرويها الإنسان حكاية عن الآخر للآخر، فالنّطق هو ما يصدر عن الإنسان قولاً أو ربما من خلال مخرجاته (كتاب، تلفاز، راديو، انترنت) من أفعال تؤدي مهمّة إيصال معرفة مخصوصة منقولة عن الآخر للآخر حول شيء محدّد، ﴿هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ ٢٩ الجاثية. وبالتالي فالنّطق ليس حكاية المرء أو الشّيء عمّا بذاته فحسب وإنّما حكايته عن غيره، فهو إذن حكاية الإنسان عن الإنسان والآخر بالعموم.

لأجل ذلك فإن النّطق ليس بلغةٍ ولا أصواتٍ ولا حتى قولِ الشّخص ما بنفسه، لأنه حتّى الحيوانات تملك لغاتها وأصواتها الخاصّة التي تقول بها لقطعانها وأممها ما تريد، لكنّ النّطق هو حكاية الإنسان عن الآخر، لذلك يتمايز الإنسان عن سائر الحيوانات بأنه حيوان حكّاء.

الحكاية والقصّة والرّواية هي فنٌّ تغزلُ اللّغةُ لها ريشاتِ أجنحتها بأدواتها البلاغيّة والبيانيّة لتحلّق بخيال الإنسان الذي يستدعيه الكاتب بعيداً إلى عوالم وأكوان لها سمات الحقيقة الإنسانيّة حتى وإن ضنّ الواقع بوجودها، تماماً كالذّكريات؛ لأنّها تلقي بأثرها على حياته من خلال نقل الفعل والحدث المتخيّل عبر تفاعلاتها وتصوّراتها إلى نفس صاحبها التي تعمل كمرآة بطريقة عكسيّة فتعكس الصورة الخياليّة إلى الفعل المجسّد في الواقع.

فالذّكريات والتّاريخ عموماً هي حقائق وليست أوهام، لكنّها بذات الآن ليست واقعًا ملموسًا، بل تظلّ مجرد أطياف وخيال. لذلك كان للقصّة وخيال الإنسان أثر كبير في حياة الإنسان عبر العصور، فقد قدّم من خلالها همومه وآلامه وأحلامه وآماله وأفكاره حول التّاريخ وذكرياته، وتصوّراته حول المستقبل ومآلاته.

قبل اختراع الكتابة كان الإنسان يجنح إلى القصص القصيرة لتخليد حكاياها الخاصّة أو المتناقلة، لأنّ الذّاكرة مهما امتدّت كانت عاجزة عن سرد القصص الطّويلة وتميل بكلّيتها إلى القصص القصيرة، هذا ما أخبرتنا به على الأقلّ تلك الرّسومات التي خلّدتها الكهوف عبر رمح مشهر أو مقذوف وحيوان يهرب وآخر مجندل بدمه الذي استُخدم كحبر ولون للّوحة نفسها.

 رغبة الإنسان العاقل حينها في سرد حكايته كلّها برسومات بسيطة دفعه إلى تكثيف كلّ معانيه في بعض الخطوط لتعكس مرآة واقعه بريشة الخيال لتقول ما تعجز أدواته الفنيّة حينها عن سرده.

كان لا بدّ من تكثيف المعاني وتعميق الخيال قبل أن تُخلق الكتابة الّتي تتيح للإنسان إمكانية السّرد المطوّل، لذلك قد يكون أحد أهم الأسباب التي أدّت إلى كتابة الملاحم في بداية التّاريخ الكتابي هو التّكثيف اللّغوي الذي كان يعتمد عليه الإنسان قبل الكتابة لنقل قصصه، على الأقل هذا ما توحي به ملحمة أسطوريّة مثل ملحمة جلجامش السّومريّة، التي شهدت تحوّلا في نُسخها عبر التّاريخ، فمن ملحمة شعريّة فلسفيّة تعالج قضايا الإنسان الوجوديّة في النّسخة السومرية الأقدم في الألواح الأولى الخمسة المكتشفة سنة 2100 قبل الميلاد، إلى أسطورةٍ ملحميّة طوّرت الأحداث السّابقة بنزعة أسطورية حدثيّة ملأت الفراغات الفلسفية بأحداث وحبكات درامية وفنتازية من خلال سرد مطوّل تكفّلت به الكتابة وتطورها في الألواح البابلية الاثني عشر الأخيرة سنة 1000 قبل الميلاد .

وهكذا الإنسان، كثيراً ما يلجأ في معترك حياته اليوميّة إلى نوع من القصّة القصيرة جداً لتضمين معان يهرب بها من التّصريح المباشر بما يودّ قوله، لذلك تجد كثيرًا من الأمثال الشعبيّة ما هي إلا قصّة قصيرة جداً مكثّفة المعنى بليغة اللّغة ونظراً لمستواها الإبداعيّ فقد ذهبت مثلًا بين الناس، ومنها على سبيل المثال: (من راقب النّاس مات همّاً، اسمع جعجعة ولا أرى طحناً، تَسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه، تجري الرّياح بما لا تشتهي السّفن.. الخ)

لذلك تأتي هذه المجموعة القصصية خاصّة بفنّ القصّة القصيرة جدًّا، وهي نوع من الأدب القصصيّ الّذي لم يلق بعدُ الاهتمامَ الّذي يستحقّه، لكن أرى أنّه في زمن سرعة الانترنت واختصارات السوشال ميديا سيصبح أحد أكثر الفنون الأدبيّة العربيّة انتشاراً مع الوقت لما يحمله من تقنيات السرد القصصيّ القصير والمكثّف والعميق الذي يناسب تحميل العبارة أكثر مما تحتمل من المعنى، على الرّغم من أن ذلك يختلف عن نزعة النّاس نحو التبسيط إلا أن شروط السّرعة وقصر المحتوى الطّاغي سيسعى إلى نقل الناس إلى هكذا فن وهكذا ذائقة أدبيّة خاصّة.

فنّ القصة القصيرة جداً؛ من أجمل وأدقّ تعاريفها ما قاله محمد مينو: ”القصّة القصيرة جدًّا حدث خاطف لبوسُهُ لغة شعريّة مرهفة وعنصرُه الدّهشة والمصادفة والمفاجأة والمفارقة، وهي قصٌّ مختزلٌ وامضٌ يحوّل عناصر القصّة من شخصيّات، وأحداث، وزمان ومكان إلى مجرّد أطياف ويستمدّ مشروعيّته من أشكال القصِّ القديم كالنّادرة والطّرفة والنّكتة”[2].

وعن مميزاتها وخصوصيتها يقول أحمد جاسم الحسين: “وفي ما يخصُّ القصّة القصيرة جدًا، وهي تستفيد من سمات عدد من الفنون والأجناس.  ولكنَّ ذلك لا يعني أبدًا أن تنسب إليها، أو تصير تابعة لها. نحن أمام فنٍّ أدبيٍّ، راح يثبت حضوره وجدواه يومًا بعد يوم، ويبدي مرونة ستتيح له ترسيخ جذوره، وتطوير ذاته، حيث تسمح المرونة للكاتب والمتلقّي بحرّيّة الحركة والإبداع والتّحليل والتّأويل”[3].

كما يرى د. يوسف الحطيني أن عناصر القصة القصية جداً هي خمسة عناصر: الحكائيّة، التكثيف، الوحدة، المفارقة، الفعليّة. وقد أوجزها نبيل المجلي في نظم خاص من خلال أرجوزة [4]:

سردٌ قصيرٌ متناهٍ في القِصـَرْ

كالسَّهْم،بل كالشُّهْب تطلق الشَّرَرْ

كَتَبـَها الأوائـلُ الكـبارُ

وليسَ يُدرى مـَنْ هـوَ المغـوارُ

قـَد ميزَتها خمسةُ  الأركانِ

حـكـايةٌ غـنـيـّةُ المعـاني

وبعـدها يلزَمـُنا التكثيفُ

ووحـدةٌ يحفَـظُها حصيـفُ

واشـترطَ الناسُ لها المفارقهْ

وأن تكونَ للحـدودِ فـارقـهْ

وجمـلةٌ فعليـةٌ بها كمُلْ

بناؤها.. وحقـُّهُ أنْ يكتـمـلْ

في ضوء هذا الفنّ الأدبيّ الجميل الخاصّ، تأتي هذه المجموعة الحكائيّة متضمنةً 99 قصة قصيرة جداً، حيث يمثل عدد 99 أكبر عدد صغير معروف يناسب فكرة الصغيرة جداً، وهو أيضاً العدد الذي يستخدم كمحدد أقصى لعدد الكلمات المتعارف عليه للقصة القصيرة جداً، في حين أن الدارج في عدد كلمات القصة القصيرة جداً ألا يتجاوز 50 كلمة وهو ما التزمت به قصص هذه المجموعة باستثناء القصتين الأخيرتين لخصوصيتهما السردية. حيث تتناول قصص المجموعة قضايا الإنسان بين الفكر والوجدان، تحت عنوان شهب الحكايا اقتباساً عن عنوان مجموعة قصص للأطفال غير منشورة كتبها ابني البكر (منار الدين) الذي سبقني في كتابة أولى كتبه وهو ابن ثمانية قبل أكثر من 10 أعوام من نشر هذه المجموعة، لتكون هذه المجموعة شيء من الفكر الذي تعتصره الرّوح مما عاشت وعايشت ورأت وقرأت في نسغ أدبي من رحيق السنين التي خبرتها في نفسي، وعطر المستقبل الذي أرجوه اقتباسًا عن شهب الحكايا الأولى الّذي نسجها خيال طفلي الصّغير من قبل، والّذي غدا اليوم شابًا أرجو له ولإخوته أن تكون في هذه الشهب ما يقودهم إلى نجوم النّجاح وكواكب الإنجاز الّتي تنير حياتهم وحياة من حولهم بحولٍ وتوفيقٍ منه تعالى .


[1]) (بارادايم القرآن) بحث أكاديمي قيد النشر للكاتب بعنوان (القرآن؛ اسم ومنهج لفهم التنزيل الحكيم – بارادايم القرآن كفرضية).

[2]) ميمون، مسلك، ما قبل السرد، اتحاد الناشرين، دمشق .2019 .ص33.

[3]) الحسين، جاسم، القصة القصيرة جدًا، مقاربة تحليلية، دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر. ص 146.

[4])الحطيني، يوسف. القصة القصيرة جداً بين النظرية والتطبيق؛ دراسة نقدية. دار اليازجي. دمسق. 2004.

 

Scroll to Top