سوريا؛ من متاهات التشظي الصومالي إلى آفاق النهضة الألمانية
أيمن قاسم الرفاعي
منذ سنواتٍ خلت، كان يُنظر إلى سوريا بوصفها جرحًا مفتوحًا على جسد الأمة، وأحيانًا كملف شائك تتقاذفه أيدي اللاعبين الدوليين، وغالبًا كصورة سوداوية تُجسِّد مآسي التهجير، والدمار، والانقسام، والانهيار. وكانت المقارنات تُستدعى دون تردد، فأصبحت سوريا، في أعين كثير من المراقبين، أقرب إلى “الصومال الجديدة”، أو ساحة لحروب الوكالة كما كانت أفغانستان في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.
لكن بعد تاريخ 8 ديسمبر 2024، بدا وكأن الزمن انشق عن ذاته، وبدأ طورٌ جديدٌ في تشكّل الدولة السورية، ليس على مستوى البنية السياسية فحسب، بل في عمق الخطاب الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، بل وحتى في المخيال الجمعي للسوريين في الداخل والخارج. إنها لحظة مفصلية من ذلك النوع الذي تحدّث عنه هيغل بوصفه “قفزة الروح من الاغتراب إلى الوعي بالذات”، لحظة بدأت تتحول فيها سوريا من ضحية للتاريخ إلى فاعلٍ في كتابته.
أولًا: تحولات في الخطاب الرسمي والشعبي
أ. الخطاب الرسمي: من الدفاع إلى المبادرة
لعلّ أوضح ما يميّز المرحلة الراهنة هو الانتقال الجريء للرئيس السوري وفريقه من موقف ردّ الفعل إلى صناعة الحدث. ففي ظرف شهور قليلة، تحوّلت الزيارات الخارجية من لقاءات رمزية إلى حراك مكوكي دبلوماسي واقتصادي، يذكرنا بالنهج الألماني في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين انطلقت جمهورية ألمانيا الاتحادية تحت قيادة كونراد أديناور نحو إعادة تعريف ذاتها في الساحة الدولية عبر الاقتصاد والدبلوماسية الفاعلة.
الخطاب السياسي السوري اليوم، وإن لم يخلُ من حسابات المصالح والتحالفات، فإنه صار أقرب إلى خطاب دولة تسعى لا إلى الاستجداء أو الشكوى، بل إلى تقديم مشروع نهضوي في المنطقة، يُبنى على احترام السيادة، وتوسيع الشراكات، وخلق بيئة استثمارية جدية. إنه تحوّل من “الهوية الجريحة” إلى “الهوية الصانعة”، حيث يُعاد تعريف الوطن ليس كـ”مكان”، بل كـ”فعل” يتجدد يوميًا.
ب. الخطاب الشعبي: من الشكوى إلى الرؤية
التحولات في الخطاب الرسمي توازيها، وربما تسبقها، تحولات في المزاج الشعبي، خصوصًا على منصات التواصل الاجتماعي، والتي لطالما كانت مرآة للمشاعر السورية الجريحة. المشهد اليوم آخذ بالتبدل: لم تعد الحوارات تتمحور فقط حول الألم، والشتات، والخسارات، بل ظهر خطاب جديد يحمل ملامح النهوض، وتقديس العمل، وإعلاء شأن الإنتاج، وإحياء الأمل بوطن ينهض من بين الركام.
من ذاكرة الحروب والدمار، خرج خطاب يشبه ذاك الذي حمله اليابانيون عقب نكبة هيروشيما، حين آمنوا أن الإبداع والعمل الجماعي هو السبيل الوحيد للخلود الوطني. السوري اليوم، في الشتات أو في الداخل، لم يعد مجرّد ضحية، بل يقدّم نفسه كفاعل، ومخترع، ومهندس، وفنان، ومفكر، وحالم بحزم.
ثانيًا: سوريا واقتصاد ما بعد الكارثة
في التجربة الألمانية بعد الحرب، عُرف مصطلح “المعجزة الاقتصادية“ التي قادتها حكومة أديناور ومصرفيّو فرانكفورت، والتي استطاعت في أقل من عقد أن تعيد بناء ألمانيا الغربية على أسس من الصناعة، والانضباط المالي، والانفتاح الاستثماري. ولئن كان السياق مختلفًا، فإن الملامح الاقتصادية التي تُرسم اليوم في سوريا تحمل بعض تلك الملامح:
- فتح مسارات جديدة للاستثمار الدولي والعربي.
- إطلاق مشاريع إعادة بناء عمرانية بأسس حديثة.
- تحركات لتشجيع عودة الكفاءات السورية من الخارج.
- خطاب تشريعي جديد يراهن على تحفيز القطاع الخاص.
وهنا لا بد من التأمل في مسار سنغافورة التي تحوّلت، بقيادة لي كوان يو، من جزيرة فقيرة تعيش على هامش العالم، إلى دولة من الأكثر تقدمًا، فقط لأن الإرادة السياسية ترافقت مع أخلاقيات العمل والانضباط الاجتماعي، هنا، يعيد السوريون اكتشاف مقولة “ماكس فيبر”: “الدولة هي الاحتكار الشرعي للفعل”، لكن بشرط أن يكون هذا الفعل إبداعًا لا قمعًا.
ثالثًا: الهوية السورية الجديدة ما بعد الحرب
الأزمة التي دامت أكثر من عقد من الزمن لم تكن فقط تدميرًا للبنى، بل كانت تفكيكًا للهوية السورية. لكن المفارقة أن هذا التفكيك بدأ يتحول، مع نهاية المرحلة الرمادية، إلى فرصة لإعادة صياغة الهوية من جديد. الهوية السورية لم تعد محصورة بجغرافيا، بل أصبحت مرتبطة بمنظومة قيم: الكرامة، والصبر، والإبداع، والانفتاح، وهي سمات من رحم الألم.
ولعل هذا ما يجعل المقارنة بالتجربة الألمانية واليابانية وازنة، فهاتان الأمتان أعادتا اختراع هويتهما بعد حروب طاحنة، لا من خلال السلاح، بل عبر احترام الإنسان، وتعظيم قيمة الوقت، والإيمان بالعمل.
خاتمة: من خطاب الاستضعاف إلى سردية النهضة
إن المشهد السوري بعد 8 ديسمبر 2024 لا يشير فقط إلى تغيرات سياسية أو اقتصادية، بل إلى انتقال أعمق، من الخطاب المأساوي الذي ساد سنوات الأزمة، إلى سردية النهضة التي تتبلور اليوم. وما يجعل هذه اللحظة حاسمة هو أنها لم تُفرض من الخارج، بل بدأت تتشكل من رحم المجتمع السوري نفسه، في الداخل كما في الشتات.
قد تكون الطريق طويلة، والتحديات هائلة، لكن التاريخ علمنا أن الشعوب الجبارة هي التي تحوّل النكبات إلى بوابات مجد. وسوريا، إذ تخرج من أطول أزمة في تاريخها المعاصر، تبدو وكأنها تتأهب لتكتب تجربتها الخاصة، لا بنسخة عن غيرها، بل بما يليق بها، وبما يليق بأمة لديها أقدم عاصمة مأهولة في العالم، وتراث أولى الحضارات الإنسانية، وإنسان خلد اسمه بين عباقرة الفكر، والفن، والإبداع عبر القرون.