سوريا الجديدة؛ بين الرقابة الشعبية الوطنية وأزلام النظام

سوريا الجديدة؛ بين الرقابة الشعبية الوطنية وأزلام النظام

  1. مقدمة

بعد أكثر من عقد من الصراع الدامي وخمسة عقود من ديكتاتورية مجرمة، بدأت تتشكل ملامح “سوريا الجديدة” في أعقاب سقوط النظام البائد. حيث تحمل هذه المرحلة الانتقالية في طياتها تحديات كبيرة، خاصة فيما يتعلق ببناء نظام سياسي جديد قائم على الديمقراطية والشفافية. في هذا السياق، تبرز أهمية الرقابة الشعبية الوطنية كأداة أساسية لضمان نجاح النظام السياسي الجديد بقيادة رئيس الجمهورية أحمد الشرع وحكومته الانتقالية في تحقيق مصالح الشعب السوري وتطلعاته، في الحين الذي لا زال يواجه فيه هذا النظام الهجمات المستمرة  لأعداء الدولة الجديدة سواء من أزلام النظام السابق أو سماسرة الحروب والأزمات الفاسدين أو عملاء أجهزة الاستخبارات الدولية، والذين يحاولون مجتمعين على اختلافهم تقويض جهود إعادة البناء والإصلاح والإطاحة بالدولة والنظام الجديد.

  •  الرقابة الشعبية الوطنية: ضرورة واقعية وافتراضية
  • الرقابة الشعبية الواقعية على الأرض

تعني الرقابة الشعبية الوطنية مشاركة المواطنين في مراقبة أداء الحكومة ومؤسساتها، سواء من خلال الانتخابات الحرة والاستفتاءات الشعبية أو عبر آليات أخرى مثل مؤسسات الإعلام والجمعيات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني ومختلف الأنشطة والمنظمات غير الحكومية الأخرى. في سوريا الجديدة، أصبحت هذه الرقابة ضرورة ملحة لضمان أن الحكومة الجديدة تلتزم بوعودها في تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية وإعادة بناء الدولة وتحقيق أهداف وتطلعات ومصالح الشعب السوري.

تشير الدراسات الأكاديمية إلى أن الرقابة الشعبية الفعالة يمكن أن تقلل من الفساد وتحسن من جودة الخدمات العامة. على سبيل المثال، في دراسة أجراها البنك الدولي “World Bank” عام 2017، أظهرت أن الدول التي لديها آليات رقابة شعبية قوية تميل إلى تحقيق معدلات نمو اقتصادي أعلى واستقرار سياسي أكبر. حيث تؤكد الحوادث الواقعية مثل هذه النتائج؛ ومن أشهر هذه الوقائع فضيحة ووترغيت (الولايات المتحدة) في سبعينيات القرن الماضي، حيث كشف صحفيان في صحيفة “واشنطن بوست” عن تورط إدارة الرئيس ريتشارد نيكسون في التجسس على مقر الحزب الديمقراطي في فندق ووترغيت. وقد لعبت الصحافة الاستقصائية دورًا حاسمًا في كشف الحقائق، كما لعب الرأي العام دورًا في الضغط على الكونغرس لفتح تحقيق في القضية. أدت الرقابة الشعبية إلى استقالة الرئيس نيكسون، وتعد هذه القضية مثالًا بارزًا على قوة الرقابة الشعبية في محاسبة السلطة.

في سوريا، حيث الحرمان لأكثر من 6 عقود من ممارسة حقوق المواطنة الكاملة وعلى رأسها نقد السلطة وتفعيل دور الرقابة الشعبية، تأتي في مقدمة أولويات هذه المرحلة العمل على رفع مستوى الوعي بالممارسة لهذه الحقوق، لذلك من الأهمية بمكان تعزيز دور الإعلام المحترف وإنشاء الجمعيات الأهلية المختلفة ومؤسسات المجتمع المدني والتيارات والأحزاب السياسية والبدء في مرحلة وإعادة بناء وتشكيل الوعي من خلال النخب الفاعلة (حتماً ليس الصامتة) تماماً بالتوازي مع مرحلة إعادة بناء الدولة ومؤسساتها من جهة وإعادة إعمار البلاد وبناها التحتية من جهة أخرى.

الرقابة الشعبية الافتراضية على الإنترنت

في عصر التكنولوجيا الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت الرقابة الشعبية الافتراضية عبر الإنترنت أداة قوية لتعبئة الرأي العام ومراقبة أداء الحكومة، حيث إن وجود منصات التواصل الاجتماعي مثل تويتر (منصة X) وفيسبوك توفر للمواطنين مساحة سهلة غير محترفة لتبادل الآراء في كل شيء بشكل فوري ومنها نقد السياسات الحكومية، وعلى اختلاف مستوى ذلك النقد ودرجة الوعي فيه وصواب اتجاهاته. فقد نشر بحث في “Journal of Democracy” عام 2020 أشار إلى أن الحركات الاجتماعية التي تستخدم الإنترنت كأداة للرقابة الشعبية تكون أكثر فعالية في تحقيق التغيير السياسي في مجتمعاتها(Tufekci, 2020).  ولا أدل على ذلك من الكثير من الأمثلة الواقعية المعاصرة:

  • ثورات الربيع العربي: التي اندلعت عام 2011 انطلاقاً من تونس لتغطي معظم الدول العربية، والتي بموجبها حصلت فيها سوريا على حريتها وتم إسقاط النظام البائد بعد حوالي 14 عاماً من الثورة المستمرة التي مرت بمفاصل كادت تنتهي فيها، فقد كان لوسائل العالم الافتراضي من منصات التواصل الاجتماعي ومواقع الإنترنت الدور الأبرز في قيادة هذه الثورة وربط عناصرها ببعضها وتغطية أخبارها. والنتيجة: تكللت بالنصر تلك الثورات في عديد من الدول، والدول التي لم تنتصر فيها الثورة قامت الحكومات بإصلاحات تقع في صلب مطالب الشعوب.
  • حركة “احتلوا وول ستريت” (الولايات المتحدة): في عام 2011، انطلقت حركة ” Occupy Wall Street” احتجاجًا على التفاوت الاقتصادي والجشع المؤسسي، وقد استخدمت الحركة وسائل التواصل الاجتماعي والاحتجاجات في الأماكن العامة للتعبير عن مطالبها، والنتيجة: على الرغم من أن الحركة لم تحقق جميع أهدافها، إلا أنها ساهمت في زيادة الوعي بقضايا التفاوت الاقتصادي، وأثرت في النقاش العام حول هذه القضايا.
  • حركة “السترات الصفراء” في فرنسا: الرقابة الشعبية على السياسات الضريبية: في عام 2018، اندلعت حركة “السترات الصفراء” في فرنسا احتجاجًا على زيادة الضرائب على الوقود. استخدمت الحركة الإنترنت لتنظيم الاحتجاجات وتنسيق الجهود بين المشاركين. والنتيجة: أجبرت الحركة الحكومة الفرنسية على إلغاء زيادة الضرائب وتقديم إصلاحات اقتصادية لتحسين أوضاع المواطنين.

وفي سوريا الجديدة اليوم، لعبت منصات التواصل الاجتماعي دوراً محورياً في الرقابة على حكومة تصريف الأعمال والقيادة الجديدة، وأدت إلى الكثير من الإصلاحات لقرارات اُتُّخِذَت بطريقة ارتجالية تصدى لها الشعب السوري من خلال ناشطيه. كان من أهم هذه القرارات التي أُلْغِيَت:

  • منع وضع علم هيئة تحرير الشام بجانب العلم السوري، توطئة لقاعدة التحول من الفصائلية إلى الدولة.
  • إلغاء قرارات وزارة التربية والتعليم وتوجهها بتعديل المناهج الدراسية
  • الرجوع عن تصريحات التحول إلى اقتصاد السوق الاجتماعي الذي أدى سابقاً إلى السوق الحر أو المفتوح؛ لأنه قرارٌ خارج صلاحيتها وهو من اختصاص حكومة المرحلة الانتقالية.
  • إلغاء قرار تعين قاضي ضمن إحدى المحاكم بعد تبين مشاركته النظام السابق في جرائمه.
  • إلغاء العديد من القرارات الخاصة بالتسويات لأشخاص نتيجة البلاغات المقدمة من المواطنين وحملات الإنترنت.
  • أزلام النظام: التحدي الحرج

على الرغم من سقوط النظام البائد بطريقة مدوية دراماتيكية، إلا أن أزلام النظام السابق لا يزالون نشطين في محاولة تقويض النظام الجديد، والعمل على تدمير الدولة الجديدة. هؤلاء الأفراد، الذين استفادوا من النظام السابق، يستخدمون وسائل مختلفة لمهاجمة الحكومة الجديدة، بما في ذلك نشر المعلومات المضللة والقيام بحملات تشويه عبر وسائل الإعلام التقليدية والحديثة، وكذلك لبس ثوب الثوار ودعم القيادة الجديدة (من خلال ما سمي بحركات التكويع) والقيام بممارسات تشبيحة باسم القيادة الجديدة في استدعاء لفكر وثقافة النظام البائد، أو أمنية من خلال حمل السلاح وتسليطه على المواطنين باسم القيادة الجديدة سواء أكان زوراً دون الانتساب إليها أو اندساساً استغلالا لحملات التسويات واستعاب موظفي كوادر الأمن السابقين، أو كذلك إعلامياً من خلال دور إعلامي قذر مع قنوات إعلامية لا هم لها سوى تأليب الشارع السوري وحصد المشاهدات، او غيرها من وسائل أخرى.

تؤكد دراسة أجرتها “Carnegie Endowment for International Peace”، أن أزلام الأنظمة السابقة غالباً ما يلجأون إلى التكتيكات القذرة لإضعاف الحكومات الجديدة، بما في ذلك استخدام التضليل والعنف والفساد، وقيادة ثورات مضادة لا تألو جهداً في النيل من النظام والدولة الجديدة وتحقيق مصالح ومكتسباتها متدثرة بكل عباءة انفصالية عنصرية تقسيمية شقاقية من شأنها تدمير السلم الأهلي الذي هو صمام الأمان للدولة والنظام السياسي وضربه في مقتل (Carnegie, 2019).

ولضمان نجاح سوريا الجديدة، يجب على القيادة السياسية والحكومة الانتقالية الجديدة أن تتخذ إجراءات رشيدة وحازمة للتصدي لأزلام النظام، ومن أهم هذه الإجراءات:
  • العمل على إصدار قانون (تجريم الأسدية)، كعدالة تشريعية تعنى بالقيم المعنوية التي ينطوي عليها الأذى المعنوي الذي يلحق بضحايا النظام البائد وأهليهم من طروحات تمجد أو تحاول الدفاع عن ذلك النظام المجرم.
  • تعزيز القضاء المستقل وإنشاء لجان مختصة لتحقيق العدالة الانتقالية، من خلال قيادة تحقيقات مركزة ومحترفة للكشف عن كل صور الجرائم التي ارتكبت باسم النظام البائد من قبل المجرمين والفاسدين والمتعاونين معهم من إعلاميين ورجال أعمال وغيرهم ومحاسبتهم.
  • الإسراع بإطلاق قناة رسمية وتعيين ناطق باسم الحكومية تعطي تقارير دورية، تغلق أبواب الإشاعات التي تطلق وتدير العملية الإعلامية للدولة وترسل التطمينات وتوجه الشعب ضد كل ما يهدد أمنه واستقراره.
  • تعزيز الوعي الشعبي بأهمية الرقابة الشعبية الوطنية ودورها في بناء دولة ديمقراطية، على كلا الاتجاهي، في مساعدة الحكومة ضد أزلام النظام والخلايا النائمة من جهة، ومن جهة ثانية الرقابة على الحكومة لضبط عمل مؤسساتها وتحسين دورها، وذلك من خلال وضع قوانين حديثة للأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني والنشر المطبوع والإلكتروني، بحيث تضمن هذه القوانين فتح سقف الحريات وجعلها منضبطة بضوابط المسؤولية الوطنية فقط، والتوعية بأهمية دور المواطن بعملية الرقابة الشعبية على مؤسسات ومسؤولي الدولة، الأمر الذي يجعل المواطن أكثر حرصا على دولته وحمايتها من كل ما يعرضها للفشل سواء من الحكومة او المناهضين لها.
  • الرقابة الشعبية كأداة للتدافع بالرأي

لتعزيز الرقابة الشعبية، يجب إطلاق حملات توعية واسعة النطاق تهدف إلى تعزيز الوعي السياسي والاجتماعي لدى المواطنين. هذه الحملات يمكن أن تشمل عقد ورش عمل وندوات وإعداد منشورات تعليمية تشرح أهمية المشاركة السياسية من خلال بوابات الرقابة الشعبية، يمكن أن تقودها الحكومة نفسها أو أن تكل مهمتها لمؤسسات المجتمع المدني والمنتديات الخاصة. حيث نشر بحث في “International Journal of Communication” عام 2018 أظهر أن حملات التوعية التي تركز على تعزيز المشاركة السياسية يمكن أن تؤدي إلى زيادة كبيرة في مشاركة المواطنين في الشؤون العامة (Boulianne, 2018).

ختاماً، علينا ألا ننسى أن الإعلام الجديد يؤدي دوراً محورياً في تعزيز الرقابة الشعبية، من خلال استخدام منصات التواصل الاجتماعي، حيث يمكن للمواطنين الوصول إلى المعلومات بسرعة وسهولة ويمكنهم من التعبير عن آرائهم بكل بساطة، مما يسمح لهم بممارسة الرقابة الشعبية بشكل أكثر فعالية. ويجب الا نتذمر كثيراً من الأراء الشاذة او غير الواعية لأنها ببساطة تعبير عن مكونات المجتمع ودرجة الوعي فيه والتي تعرضت لانتكاسات كبيرة خلال عقود الظلام البائد، فهي بحاجة إلى سنوات من الاستيعاب والعمل الجاد لرفع سوية الوعي والتي لا تتأتى إلا بنشر المعرفة وممارستها على حد سواء، ولا سبيل إلى ذلك أكبر فاعلية من التدافع بالرأي وفتح المجال للمواطنين لممارسة حقهم في التعبير بحرية لأن الوعي لا يتأتى إلا بالممارسة، متخطين في ذلك التخوفات كلها التي تطلق باسم عدم الوعي الحالي، وذلك لأن الرأي الواعي كالماء النافع يبقى في الأرض وينبت شطأه والرأي السفيه يذهب جفاء ذهاب الزبد وفنائه.

سوريا الجديدة تقف على مفترق طرق تاريخي، حيث يمكن أن تصبح نموذجاً للديمقراطية والشفافية في المنطقة، أو أن تتعثر تحت وطأة الفساد والصراعات الداخلية وخطر التقسيم وسيناريوهاته العديدة. لذلك الرقابة الشعبية الوطنية، سواء كانت واقعية على الأرض أو افتراضية على الإنترنت، هي أداة أساسية لضمان نجاح النظام الجديد. في المقابل، يجب التصدي بحزم لأزلام النظام السابق الذين يحاولون تقويض جهود الإصلاح، مميزين بكل حزم بين النقد البناء والنقض الهدام، وفقط من خلال تعزيز الوعي الشعبي والمشاركة الفعالة يمكن لسوريا الجديدة أن تبني مستقبلاً أفضل لشعبها.

المراجع

• World Bank. (2017). The Role of Civil Society in Promoting Good Governance. Washington, DC: World Bank Publications.

• Tufekci, Z. (2020). Twitter and Tear Gas: The Power and Fragility of Networked Protest. Yale University Press.

• Carnegie Endowment for International Peace. (2019). The Challenges of Transitional Justice in Post-Conflict Societies. Carnegie Endowment.

• Boulianne, S. (2018). Social Media Use and Participation: A Meta-Analysis of Current Research. International Journal of Communication, 12, 20.

03/03/2025

شارك:

مقالات ذات صلة:

Scroll to Top