[rank_math_breadcrumb]

كيف يتحرر الإنسان من «كلابه العقورة»؟

كيف يتحرر الإنسان من «كلابه العقورة»؟

هذا المقال بناء على سؤال عميق من صديق:

((الصراع الداخلي والتمزق بين السمو والدناءة..
زارا يتحدث عن التمزق بين الرغبة في التحرر والارتقاء، وبين الغرائز المظلمة:
“كلابك العقورة تطلب حريتها، فهي تنبح مرحة في سراديبها.”

حتى في لحظة السعي نحو الحرية، تسعى الغرائز الحيوانية أيضًا للتحرر. هذه الغرائز هي ظلمات وقوى بدائية – شهوات، كراهية، أنانية، جبن، ندم – محبوسة لكنها حيّة، تتحين الفرص للخروج باسم “الحرية
وهنا التحرر الخارجي لا يكفي، بل يجب التحرر من الداخل، من القبح المكبوت، من “كلابنا العقورة”.
وسؤالي لك : كيف يتحرر الانسان من كلابه العقورة؟))

 

كيف يتحرر الإنسان من «كلابه العقورة»؟

رؤية فلسفية قرآنية حول صراع الغرائز بين السمو والتفوق

 

أيمن قاسم الرفاعي

إن الصراع الداخلي الذي أشار إليه نيتشه في «هكذا تكلم زرادشت» حول التمزق بين الرغبة في التحرر والارتقاء، وبين الغرائز المظلمة البدائية، لا يمكن فهمه على نحو صحيح إلا بالتفريق الجوهري بين الغريزة الحيوانية والشهوة الإنسانية.

 

  1. الغريزة: فطرة الحياة الطبيعية

الغريزة هي نزعة فطرية طبيعية تحفظ بقاء الكائن الحي. هي في الحيوان نظام مغلق، له حاجة، يسعى إلى إشباعها، وما إن تُشبع حتى يخمد الدافع مؤقتًا.

  • غريزة البقاء تولّد الدفاع عن النفس أو الافتراس.
  • غريزة التزاوج تولّد التنافس والتزاوج.
  • غريزة الحياة تولّد السعي وراء الغذاء والماء.

في الحيوان، الغريزة محدودة ومؤطرة. لا تتجاوز مقصودها: الأمان أو الغذاء أو التزاوج. لا تطغى ولا تستبد. وأقصى تطور له هو التنافس على رياسة القطيع، لكن حتى هذا السلوك الحيواني القطيعي هو سلوك تحت غريزة البقاء ما تتطلبه لحفظ حياة القطيع وليس للتحكم والاستعباد.

 

  1. الشهوة: غريزة + معرفة

أما الإنسان، فالأمر مختلف تمامًا.
فالإنسان لا تحكمه الغرائز وحدها، بل تتحول غرائزه إلى شهوات كما وصفها محمد شحرور حين تتداخل مع المعرفة—والمعرفة هنا تشمل:

  • العلم: أي إدراك الوسائل والغايات والقدرة على التخطيط.
  • القيم: أي المعايير التي تحكم الفعل: هل هو خير أم شر؟ عدل أم ظلم؟

هكذا تنشأ الشهوة:

  • غريزة البقاء تتحول إلى شهوة السيطرة التي قد تدفع الإنسان للقتل الجماعي أو الاستعباد أو شن الحروب المدمرة، لا لمجرد النجاة بل للهيمنة المطلقة.
  • غريزة التزاوج تتحول إلى شهوة جنسية منحرفة قد تفضي إلى الاغتصاب، أو المثلية، أو الشذوذ، أو حتى اختزال الإنسان الآخر إلى «جسد» فقط يمكن اقصائه في سبيل الحصول على شهوة الجنس.
  • غريزة الحياة تتحول إلى شهوة التملك والجشع حيث لا حدّ لاستهلاك الإنسان أو استئثاره بالموارد حتى على حساب بقاء الآخرين.

وهنا يظهر ما يمكن أن نسميه مع كانط الشر الجذري، أي القدرة الإنسانية الفريدة على تحويل الدافع الطبيعي إلى أداة تدمير شاملة. وفي ذلك تدخل مفاهيم الشهوة المحايدة والشهوة المدمرة في علم النفس.

 

  1. العقل الأخلاقي كميزان

التحرر الحق من «الكلاب العقورة» لا يكون بنفي الشهوة أو قمعها قسرًا، بل بـ:

  • الوعي بها: أي إدراك وجود هذه الدوافع في الداخل دون إنكار.
  • الضبط والتهذيب: لا إلغاء ولا إطلاق، بل تصعيد وتحويل بتعبير فرويد.
  • الالتزام بالقيم الأخلاقية: وهي الفارق الحاسم الذي يجعل من الإنسان إنسانًا.

وهنا أستدعي مقولة أرسطو : الفضيلة هي وسط بين إفراط وتفريط.

مسحوبا عن قوله سبحانه (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ ) فالوسطية كمفهوم قراني هي الخيرية أو ذات النهج القيمي. لذلك تسود قاعدة خير الأمور أوسطها.
فالاعتدال لا يتحقق إلا بضبط الشهوات وتقنينها بالقيم لا بإلغائها.

وكذلك مقولة كانط: تصرف دائمًا بحيث تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص غيرك كغاية لا كمجرد وسيلة.
أي أن القيمة الأخلاقية للفعل مرتبطة بالكرامة الإنسانية والاحترام المتبادل.

مسحوباً عن قوله تعالى ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾.

حيث مفهوم الكرامة هو مفهوم إنساني بحت تجلى عند حصول آدم على المعرفة وطلب رب العزة من ملائكته السجود له، لذلك تصبح الغرائزية الحيوانية غير لائقة بالانسان فتحولت الى شهوانية منضبطة ومقننة.

 

  1. التزكية: رؤية قرآنية للتحرر

في القرآن نجد التعبير الأسمى لهذا المنهج في قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ (الشمس: 9-10)

  • التزكية؛ هي صيرورة مستمرة، لا قمع ولا تعطيل، بل تهذيب وتصعيد نحو مراتب أعلى.
  • التدسية؛ هي التوحل في الغرائز حين تتحول إلى شهوات منفلتة بلا ضابط.

إذن الإنسان، كما وصفه آدم سميث تطويرا لتعريف ارسطو القديم (الانسان حيوان عاقل) هو: حيوان أخلاقي—أي كائن لا تكتمل إنسانيته إلا بالوعي الأخلاقي.

  1. نحو الإنسان السامي: ليس نيتشويًا بل قرآنيًا

نيتشه دعا إلى الإنسان الأعلى الذي يتحرر من الأخلاق التقليدية ليخلق قيَمه الخاصة. لكن الاسلام قرانيا وبخاصة بحسب الفهم الخاص الذي ابنيه  من خلال منهج «بارادايم القرآن» يدعو إلى الإنسان السامي لا بالتحرر من القيم، بل بالتحرر بالقيم السامية.

فالسمو ليس في كسر الأخلاق والتحرر من كل ضوابط للإنسان تجاه الآخر، بل في إحياء الأخلاق الرحيمة بالآخر التي تحرر الإنسان من شهوات الذات وترفعه فوق الغرائزية لا عبر إلغاء جوهرها بل عبر تهذيبه المعرفة التي تحيلها إلى طاقة أو نزوع شهوي مضبوط.

الخلاصة:

إن «الكلاب العقورة» التي تنهش روح الإنسان ليست غرائزه الحيوانية البريئة، بل شهواته الإنسانية التي تستخدم وسائله العلمية بقيم مشوهة غير منضبطة فتجعل منه كائناً متحررا من كل قيد أخلاقي قيمي.
التحرر الأصيل لا يكون بالخضوع الأعمى ولا بالقمع الميكانيكي، بل بالوعي، والضبط، والتزكية، والالتزام بمقصد أخلاقي سامٍ.

هكذا تصبح الكلاب العقورة كلاب حارسة تبسط ذراعيها بوصيد كهف الهداية، كأدوات حماية لا أدوات افتراس، فتحرس الانسان في زمن الفتن، وتعلي من شأنه بين أقرانه في زمن التمكين.

 

Scroll to Top