في حضرة الذكرى الثانية

في حضرة الذكرى الثانية

عامان.. بل أربعة أعوام … بل العمر الماضي … بل كل ما هو آت..

هل يقاس الزمن بقفزات عقارب الثواني والدقائق والساعات فوق مساحات أيام أعمارنا، أم بهواجس لحظات الانتظار وفحيح أفاعي الترقب التي تسكن صدورنا فتذيقنا من آلام الرعب وفزع المجهول منها أضعاف ما نتجرع من آلام لسعاتها وسياط جلدها..

لم تمر ذكراه الثانية وهو مغيب خلف قضبان المآسي في ظلمات أقبية الموؤدين، دون أن تحرك لواعج النفس وأشجان الفؤاد، ولكن تشارك العجز كان الحاضر في هذه الذكرى..

يصيبنا المرض فنسكن خلف قضبان عجزنا ونتجرع ذل الأسر في حضرة سجانه “الضعف”، ورغم أنه سجان قاس إلا أنه غالباً ما يطلق سراحنا خلال أيام قضيناها سجناء فراش لم نحس بوثيره وتنعمه يوماً، وتحت رعاية لم نلتفت لحظة أننا قتلناها بتذمرنا..

في حضرة سجاني “الضعف” حضرني حاله وحال إخوته في حضرة سجانيهم من شياطين الإنس، سجاني رحيم رغم عدم بشريته، وسجانيهم جلادين قتلة رغم بشريتهم، فكم أهانوا منهم النفس وعذبوا الروح.. كم أذاقوا الجسد ويلات من لهيب جهنم شيطانيتهم.. فكم مزقوا من جسد وفتتوا من عضو وصعقوا من عقل وفجروا من قلب.. يضيق خيال من مثلنا عن تصور حجم المآسي التي يمكن لشياطين الإنس من أمثالهم أن تبتدعها.. ويضيق أكثر ذاك الخيال عن حجم الآلام التي يمكن لأجساد المسحوقين تحت سياطهم أن تحتملها..

أهيم بخيالي لاتقمص جسد منهم، جسد مسجى فوق بساط ريح لم يعرف يوماً إلا رياح السياط وأعاصير التعفيس والركلات، جسد مشدود الوثاق فوق سرير جهنم الذي صاغته شياطينهم من مسامير كرهها، جسد مقيد فوق كرسي صواعق الموت التي تبرق من غيوم حقدهم، جسد مشبوح الذراعين في سقف كفر برحم الأرض ولم يعرف يوماً سماء.. يضيق خيالي عن تحمل حجم الألم الذي تتصوره روحي المتقمصة فتخرجني من تقمصي قبل خروج روح معذبيهم.. أي طاقة يحتملها الجسد صبراً على روح تصر على البقاء رغم جموح رغبته في أن تغادره حتى يرتاح من عذابات الموت الذي لا يأتي، أي سحر يحمله ترياق الأمل الذي تحقنه الروح في الجسد حتى يتشبث بالحياة حيث يغيب كل معنىً للحياة.

نحسب غيابهم عنا بالسنين والشهور وربما البعض بالأيام والساعات، لكن حسابهم لغيابنا عنهم أكبر من أن تحصيه الأنفاس المتعفنة وسكاكين البرد التي تحز العظام النافرة وقطرات العرق التي تتحدر كلهيب الجمر فوق الجراح المنتنة وسهام الشوق التي ترسلها الذكرى فتخترق ما تبقى من شغاف الأفئدة..

أخي.. وشقيق روحي، تضيق قريحتي حين تمر باسمك ويخر قلمي مغشياً عليه.. أنت لست أخي وحسب.. أنت كل أولئك المغيبين عن أحبتهم..

أنت ذاك الولد الذي أطعمه فؤاد أمه من حباته قبل أن ترضعه من حليبها لتراه حضن تضع في حناياه باقي سنين العمر التي أفنتها تحت قدميه..

أنت ذاك الكبد الذي شق صاحبه الأرض لأجله كداً وأفناه تعباً ليراه رجلاً يتكئ عليه إذ ما انهار به جدار العمر..

أنت ذاك الحبيب الذي أشعل قلب امرأته املاً في حياة بسيطة على راحات مستقبل من الآمان..

أنت ذاك الصديق والأخ الذي مضى العمر في بناء جسور المودة معه حتى تعبر الروح إليه كلما أثقلتها الدنيا بالهموم أو داهمتها الخطوب..

أخي .. لا أعلم في أي العوالم أنت .. ولا أي الحاضرين انت ..

فإن قضيت نحبك على يد من أعدموا وطنك وقتلوا أهلك قبلك، فأسأل الله أن يجعلك ممن قبل عمله وكتبك عنده من الشهداء، وسأخاطب روحك الحية الحاضرة دائماً وسأمني النفس معها بمشيئة الله في لقاء قريب مهما طال في إحدى ساحات الجنان وتحت فيء أشجارها.

وإن كنت لازلت مصراً على الحياة وحاضر الجسد والروح رغم سهام الموت المحيطة بك تتقاذف جسدك وتتخاطف روحك من كل جانب، فأرجو الله أن تسلم منها جميعها ليس لأجلي ولكن لأجل كل تلك القلوب التي ستكون عودتك وعودة إخوتك لها بلسم ينسيها جراح ما كانت لتنسى إلا بمعجزة حياة تعاد لجسد اثخنته سكاكين الموت التي حزت روحها آلاف المرات.

أبو رياض الغالي..

انا لا أخطبك وحدك هنا، وإنما أخاطب كل أحبتنا المغيبين معك..

اصمدوا فالأرض لا زالت تحفظ وقع أقدامكم عليها وتريد أن تعود تلك الأقدام إلى قرعها حتى تبني ما هدم وتشيد ما انهار وتزرع ما اقتلع..

اصمدوا فالقلوب لا زالت تلتف برداء محبتكم ولا تريد لذاك الرداء أن يصبح مجرد ذكرى لكم بل تريده حياً بكم لتتشاركوا معها نسغ الحياة ونشوتها..

اصمدوا لان الله يحب ان تصمدوا وقد ابتلاكم لأنه يحبكم، ونحن أيضاً نحبكم وندعوه لأجلكم.. فقط نرجوكم اصمدوا ..

الدوحة –  18/11/2014م

أيمن قاسم الرفاعي

شارك:

مقالات ذات صلة:

أيمن قاسم الرفاعي

Ayman Q. Alrefai

باحـــث دكتــــــوراة فـــي الدراســـــات الإسلاميـــــة
كـاتب وباحــث متخصـص في مجـال الإدارة والسياســة العامة
مدون وكاتب في مجال الفكر والفن والأدب والقصة والشعر

آخر ما حرر
مقالات ذات صلة
Scroll to Top