[rank_math_breadcrumb]

العفو السياسي بين المصلحة والعدالة: تفكيك الأزمة الأخلاقية

العفو بين المصلحة والعدالة

العفو السياسي بين المصلحة والعدالة: تفكيك الأزمة الأخلاقية

أيمن قاسم الرفاعي

تمهيد:

في المراحل الانتقالية التي تعقب الحروب والصراعات، تُغلف الكثير من الممارسات السياسية برداء الضرورة، ويُستدعى منطق البراغماتية كمبرر لصياغة قرارات مصيرية. من بين تلك الممارسات التي تُثير إشكالات جوهرية: العفو عن مجرمين سابقين ارتكبوا انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بذريعة أنهم ساهموا لاحقًا في انتصار سياسي أو عسكري.

سنتناول هذه الإشكالية في مقالنا هذا بالتحليل، وحتى نفككها أخلاقياً لا بد من أن نقاربها من زاوية مرجعية قرآنية وسياسية فلسفية معمقة، وذلك لفهم طبيعة الحكم الراشد، وسنن الله في العدالة، وحدود العفو، وتمييزٍ حاسم بين منطق البراغماتية المقبول سياسيًا، وبين الميكافيلية المرفوضة قرآنيًا وأخلاقيًا.

أولاً: لا يُفلح الظالم:

لو حُكّمَ القرآن في هذه القضية لانتصر للحق وحسم منذ البداية أن المعيار النهائي للحكم ليس “النتائج السياسية”، بل تحقق العدالة؛﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [٥٨ النساء]. وذلك أنه لا فلاح مع الظلم ولا نصر من الله مع إضاعة الحقوق: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ۗ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ  [الأنعام: 21]، ﴿قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ۗ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [الأنعام: 135]، ﴿وَتِلْكَ الْقُرَىٰ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا﴾[الكهف: 59].

هنا نلمس فلسفة قرآنية عميقة، تفصل بين مفهوم “النجاح السياسي” ومفهوم “الفلاح القيمي”. الظالم قد ينجح عسكريًا أو يفرض سيطرته على الواقع بالقوة، لكنه – في منطق القرآن كسنن إلهية – لا يفلح، لأن الفلاح يرتبط بحياة مستدامة قائمة على الحق والعدل، لا على موازين القوة والظلم والنصر العسكري الظاهر. إن الفلاح في الرؤية القرآنية ليس لحظة انتصار، بل نتيجة تحقق شروط السنن الإلهية، وعلى رأسها العدل. ولهذا كان من سنن الله أن يؤدّب الأمم التي انتصرت بالظلم، كقوم فرعون وعاد وثمود وسبأ، الذين بلغوا أوج قوتهم، لكنهم لما أسرفوا في الظلم، أنزل الله بهم الهلاك.

إن “الانتصار” لا يكون فضيلة إلا إن جاء دفعاً لظلم وإقامة لقيم وإحقاقاً لحق، لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبا. وقد أكد التاريخ الإسلامي هذا المعنى في أكثر من موضع؛ فرغم أن الحجاج بن يوسف الثقفي قدم الكثير عبر التاريخ من خلال تحقيق الاستقرار الأمني للدولة الأموية وتوجيه فتوحات المشرق الآسيوي، إلا أن سيرته اقترنت بالبطش والجور، فظل منبوذًا في الوعي الأخلاقي الإسلامي، كما يصفه ابن كثير وغيره من المؤرخين (1). وفي المقابل، نجد عمر بن عبد العزيز الذي لم يقم بفتوحات تذكر كثيراً، لكنه أقام العدل، فكتب له التاريخ فلاحًا أخلاقيًا لا يزال يُضرب به المثل.

إذا كان النصر هو معيار الحكم، فكل مستبد يمكنه أن يدعيه، أما إذا كان الفلاح هو المعيار، فلن يصمد إلا من التزم بميزان الله في الحكم. ولهذا قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ…﴾ [الرعد: 17]، في إشارة واضحة أن الزبد (الظلم والبطش) لا بقاء له، حتى وإن بدا الانتصار المؤقت فوزاً.

ثانيًا: بين البراغماتية والميكافيلية:

البراغماتية – كما تُفهم عقلانيًا – هي تقديم المصلحة العليا وفق توازن بين المبادئ والوقائع، وهي منهجٌ يُراعي الواقع ويستثمر الممكن دون التخلي عن المبادئ الجوهرية. أما الميكافيلية، فهي فلسفة تُجيز استخدام الكذب، والخداع، والعنف، ما دامت الغاية السياسية المتوخاة تتحقق، وهو ما كتبه نيقولا مكيافيللي في كتابه “الأمير” حين قال: “إن الأمير الحكيم لا يجب أن يحافظ على وعوده عندما يكون ذلك ضد مصلحته” (2).

القرآن لا يُدين البراغماتية المنضبطة، بل يعمل ضمن نطاق السنن الكونية والاجتماعية، ويُراعي الواقع، ويتدرج في التغيير، لكنه يقف بصرامة ضد الميكافيلية التي تنزع الأخلاق من السياسة. ولذلك جاء الاستفهام القرآني الحاسم: ﴿أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ [القلم: 35-36]، ليعيد ترسيخ الفارق بين الالتزام الأخلاقي والتوظيف الانتهازي.

الميكافيلية؛ تعني تمييع الحدود بين الخير والشر، وهو ما يعارضه القرآن في عشرات المواضع، ومنها: ﴿وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 42]، أي لا تُدخلوا الباطل في لباس الحق، وهو وصف دقيق للميكافيلية.

كما أن البراغماتية الرشيدة التي عرفها النبي ص في صلح الحديبية – حين قبِل ببعض التنازلات الشكلية من أجل مصلحة أعلى هي استقرار الدعوة – لم تكن أبدًا على حساب المبادئ الكبرى، بدليل رفضه الشفاعات التي جاءت إليه بعد غدر بنو نفاثة من كنانة حلفاء قريش، بجماعة من قبيلة خزاعة حلفاء الرسول ص.

البراغماتية في القرآن ترتبط بالحكمة والمصلحة معاً ضمن إطار أخلاقي قيمي، وبناء عليه بنى ابن القيم قاعدته الذهبية: “إن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل”، أما الميكافيلية فهي مما يُسميه القرآن فسادًا في الأرض لإنه فعل منزوع القيم ملتبس المعنى لدى فاعله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 11 – 12].

لذلك فإن إضفاء الشرعية على عفو سياسي عن مجرمين لمجرد أنهم “حققوا مصلحة أمنية” أو “ساهموا في النصر” هو تمظهر صارخ للميكافيلية الحديثة التي تُلبّس السياسة ثوب الأخلاق زورًا، وتكيل الحق بمكيالي ميزان مزدوج المعايير، وبالتالي تعيد إنتاج الظلم باسم الضرورة.

ثالثًا: العفو حق شخصي قبل أن يكون شأن عام:

إن مفهوم العفو في القرآن يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمجال الأخلاقي والفردي، لا بمجال السياسات العمومية التي تتجاهل ميزان العدالة. فالعفو لا يُشرَّع إلا بضوابط صارمة: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [الشورى: 40]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَىٰ بِالْأُنثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ … ﴾ [البقرة: 178] .

هذا يعني أن العفو يجب أن يصدر عن المتضرر أو ولي الدم، وأن يكون مشفوعًا بإصلاح حقيقي لا بمصلحة سياسية. أما أن يكون العفو قرارًا سلطويًا يطوي صفحة الجرائم بدعوى تحقيق “الاستقرار” أو “النصر”، فهو أقرب إلى المداهنة والانحراف: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] . طبعاً ما لم يكن العفو متعلق بحقوق عامة سياسية أو أمنية لم تخلف دماً أو حقاً شخصيا مسلوباً.

وفي السياق النبوي، رغم البراغماتية التي ظهرت في صلح الحديبية، إلا أن النبي لم يعفُ عن مجرم على حساب المجتمع، بل التزم بالعدالة الأخلاقية في كل المواضع، ورفض المساومة على جوهر الحق، ولا أدل على ذلك من قصة المرأة المخزومية التي سرقت، وغضبه صلى الله عليه وسلم من الشفاعة فيها التي كانت مرتبطة بصيغة من الصيغ بشأن سياسي نظرا لوزن بني مخزوم في القوم، وقال حينها قولته العظيمة: “وأيمُ اللهِ لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقتْ لقطعتُ يدَها”.

ومن هنا، فإن المنهج التطبيقي المستفاد في العفو والصلح إسلامياً وفق المنهج القرآني، وحداثياً وفق نهج السياسات الرشيدة يجب أن يقوم على العناصر الآتية:

  1. تمييز طبيعة الجريمة: كل جريمة متعلقة بحقوق الإنسان أو الدماء لا يجوز إسقاطها باسم المصالحة، لأنها تتعلق بأصول العدالة الكونية.
  2. إشراك الضحايا أو ممثليهم في أي آلية عفو، كما هو معمول به في العدالة الانتقالية في بعض النماذج العالمية (مثل جنوب أفريقيا ورواندا)، حيث يتم الجمع بين الاعتراف بالحقيقة والمحاسبة أو التسامح المشروط.
  3. ربط العفو بإصلاح حقيقي: لا يكون العفو مجرّد إغلاق للملفات، بل بابًا لتصحيح مؤسساتي ومجتمعي يضمن عدم تكرار الجرائم.
  4. إقرار مبدأ استحقاق القيادة لا توظيفها: أي أن من تلطخت يداه بالدم لا يجوز أن يعود للحكم أو يُكافأ، لأن الشرعية لا تُبنى على تسويات ظرفية، بل على أساس العدل والاستحقاق الأخلاقي والسياسي.

إن السياسات المعاصرة تتجه نحو ما يُعرف بـ “الحوكمة الأخلاقية”، أي أن تُدار الدولة لا فقط بالكفاءة، بل بالقيم. وبهذا المعنى فإن نموذج الحكم في ضوء المنهج القرآني يتقاطع مع هذا التوجه، ويقدمه في صيغة أعمق تتأسس على سنن الله في المجتمعات.

رابعًا: العدل لا يؤجل باسم الضرورة ولا إصلاح دون مساءلة:

إن من أخطر ما تفرزه السياسات البراغماتية حين تفقد مرجعها الأخلاقي وتتماهى مع الميكافيلية، هو تأجيل العدالة من قبل السلطة الحاكمة بدعوى الضرورة، أو تعليق المساءلة في مقابل تحقيق مكاسب أمنية أو سياسية. إذ أن القرآن الكريم يؤكد أن العدل لا يُؤجل ولا يُفاوض عليه، بل هو مناط الأمر الإلهي في الحكم: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء: 58] .

فالأمانة هنا لا تنحصر في المال، بل تشمل كل أشكال المسؤولية العامة، وعلى رأسها ضمان محاسبة من أفسد أو ظلم مهما بلغ من نفوذ أو دعم سياسي. وهذا ما يؤكده أيضًا قانون الهلاك الحضاري في القرآن: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} [سبأ: 16] (13)، ﴿فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا ۚ…﴾ [الأنعام: 45]، فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ۚ [النساء: 153]، ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ﴾ [الأنبياء: 11]. وكذلك يؤكده قانون العمران الخلدوني: “الظلم مؤذن بخراب العمران”، حيث لم يكن الإعراض والظلم هنا عن الدين وشعائره فقط، بل عن مقتضيات العدل الاجتماعي والسياسي.

ربما في قصتي مقتل الخليفتين عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان مقاربة مزدوجة لهذه النقطة يشير إليها الكثيرين في هذاالسياق: ففي الحالة الأولى؛ حين قام عبد الله بن عمر بقتل أبو لؤلؤة المجوسي بدم أبيه دون انتظار حكم ولي الأمر كان قتل قصاص واضح لا علة في جدواه الأخلاقية وحقه إلا من باب الإفتئات على ولي الأمر الذي لم يكن تعين بعد، فخللها ليس أخلاقياً بل يمكن أن يكون تنظيمياً لا أكثر مع وضوح الجريمة. وفي الحالة الثانية؛ حين تضاربت المواقف بين فريقي المسلمين فريق معجل بالقصاص والعدالة يمثله معاوية وطلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة ومن معهم من الصحابة، وفريق ومعجل بإقامة النظام العام قبل القصاص والعدالة يمثله علي بن أبي طالب ومن معه من الصحابه، طبعاً القياس لا يصح هنا لأن الدولة غير قائمة لعدم تنصيب خليفة حينها، والجريمة ليست فردية بل جماعية تمثل فئة انقلابية على الحكم، وبالتالي فحالة العدالة تتطلب إقامة الدولة أولاً حتى يتم إقامة العدل ولا يذهب الأمر مذهب الانتقام ويضيع معها العدل والدولة وتكون المشكلة أخلاقية وتنظيمية في آن معاً، لذلك كان في تلك المواقف المتبانة حينها فتنة ندفع ضريبتها إلى اليوم.

إن الإصلاح ليس عملية إدارية أو تقنية مجردة، بل هي فعل أخلاقي جذري يبدأ من مساءلة المسؤولين عن الانهيار العمراني الحضاري من خلال نسف منظومة القيم والأخلاق، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11]، والتغيير هنا يبدأ من كشف الظلم لا التغاضي عنه. وتؤكد التجارب الدولية في العدالة الانتقالية، كجنوب أفريقيا وكولومبيا، أن أي مصالحة دون كشف الحقيقة والمساءلة تُنتج دورة عنف جديدة مؤجلة، تمامًا كما يُنتج التهاون مع الفساد سرطانًا مؤسسيًا يُفقد الدولة مناعتها الأخلاقية والسياسية، فتتنكس عمرانياً إلى دولة فاشلة لتنهار حضارياً فيما بعد محققة شروط الهلاك القرآني والخراب الخلدوني.

لذلك فإن العدل – كسنة إلهية– لا يُمارَس على استحياء، بل هو أمر إلهي صريح لا يحتمل التأجيل، ولا يُسوَّغ بأعذار الضرورة، وهو ما ينقض منطق “العفو السياسي” الذي يُراد له أن يُجمل العنف تحت شعار الاستقرار.

خامسًا: من الأزمة إلى التدبير: من وحي القرآن والسياسات الأخلاقية

إذا كان العفو السياسي المصلحي يُنتج أزمات أخلاقية ومجتمعية، فإن السنن الإلهية التي جاء بها القرآن لا تكتفي بإدانة الفعل، بل ترسم مسارات واقعية للخروج من هذه الأزمة، قائمة على التوازن بين العفو والقصاص، وبين التوبة والمحاسبة، وبين الرحمة والعدل، وحتى بين توازنات العلاقات الدولية والاستحقاقات الوطنية. لذلك، فإن الإصلاح لا يتم بالنيات، بل ببناء آليات مؤسسية واعية تمنع تكرار الجريمة، وتعيد الثقة بين الدولة والمجتمع وتحصنها ضد أي تصدعات. ومن أهم هذه السياسات ما يلي:

  1. الشفافية والوضوح في ملف العفو:

القرآن يربط صلاح المجتمع بـالشفافية في أنقى صورها؛ ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ﴾ [الأحزاب: 39]، إن إخفاء ملفات العفو العام عن الشعب من خلال تصريحات إعلامية مرسلة، أو التعتيم على تفاصيلها ومن شملهم العفو وأسبابه وملابساته منافي لمبدأ الشفافية ومجانب للمصداقية بالغ ما بلغت ، حتى لو كان وراؤه صفقات دولية كانت شرط وضمان لاستقرار البلاد، إذ أن المجتمع في عصرنا كله على وعي أننا نعيش في عالم للعلاقات الدولية فيه كل التأثير حتى على القرارات الوطنية، لأن ذلك التجاهل وعدم الشفافية من شأنه أن يرسخ منطق الإفلات من العقاب في المجتمع في صور متعددة وعلى صعد مختلفة. لذا فالشفافية هنا ليست مطلبًا حقوقيًا فقط، بل شرطًا وجوديًا لاستعادة العقد الأخلاقي بين السلطة والناس.

  1. صدور قانون ملزم واضح المعايير:

العفو لا يكون مشاعًا بلا ضوابط او من خلال قرارات فردية، بل ينبغي تقنينه ضمن قانون معلن صارم وواضح البنود يحدد ما يلي:

  • نوع الجرائم التي لا يجوز العفو عنها عموماً (جرائم الدم، التعذيب، الاغتصاب).
  • ضرورة عرض الملفات على لجنة قضائية وطنية مستقلة، تُمثل فيها جهات حقوقية وأهلية وتكون شاهد حقيقة.
  • إلزام كل من يطلب العفو بتقديم اعتراف علني وشهادة تكشف كل المستور، وطلب صريح للمغفرة، وأن يخضع لأحكام تجعله منقوص المواطنة او يحكم بالنفي لقاء العفو عن القصاص منه.
  1. تعويض الضحايا معنويًا وماديًا:

لا عفو دون عدالة ترمّم كرامة الضحية. ولهذا فإن سنن الله وقوانينه الأخلاقية التي ناقشنها آنفاً تشترط في العفو الحقيقي أن يكون مُفضيًا إلى إصلاح. والإصلاح هنا يعني تقديم اعتذار رسمي، وترميم الأضرار المادية والنفسية التي لحقت بالضحايا، وتجلية ذلك للمجتمع لضمان صيانته من مثل هذه الأفعال في المستقبل.

وقد أثبتت تجارب مثل العدالة الانتقالية في الأرجنتين وكندا أن الاعتراف الرسمي والتعويض المعنوي والشفافية عوامل تشكل حجر الأساس للئم الجراح، وترميم الذات الوطنية، وإشاعة الثقة بين الناس من جهة وبين الناس والحكومة من جهة ثانية.

  1. تثقيف مجتمعي وذاكرة جماعية:

لا تكفي الخطوات السابقة مالم يتم إطلاق حملات ومواد تعليمية تشرح لماذا لا يجوز العفو عن الجرائم الكبرى دون مساءلة. وهذا جزء من “الذكرى” التي حث عليها القرآن في مواضع عدة: {وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ} [إبراهيم: 5]، لأن غياب الذاكرة الأخلاقية يجعل الأجيال القادمة عرضة لتكرار المأساة.

  1. تحصين الدولة من التوظيف السياسي للعفو:

يجب ضمان ألا يُستغل ملف العفو لتحقيق مآرب سياسية أو صفقات تحت الطاولة. وهذا لا يتحقق إلا بفصل سلطات القرار، وتمكين القضاء المستقل.

إن سنن الله القرآنية في المجتمعات كما يقدمها لا تكتفي بتحليل الظواهر، بل يستخرج منها قوانين للسلوك الجماعي،  ولذلك فإن أي سياسة لا تُبنى على وعي سنني أخلاقي – مهما كانت محكمة تقنيًا – تبقى عرضة للانهيار من الداخل.

خاتمة:

في حضرة الفتنة الكبرى بين مصلحة الدولة وكرامة الإنسان، يقف التمسك بسنن الله لا كخطبة وعظ، بل كميزان معرفي وسنني، يُعيد ضبط البوصلة السياسية في لحظة التيه الأخلاقي. إن العفو عن مجرم لمجرد مساهمته في نصر لاحق، هو كمن يزيِّن الجريمة ببريق الإنجاز، ويُقايض العدالة بالتكتيك، والكرامة بالمنفعة.

لكن القرآن، بمنهجه العميق، لا يترك الظلم مائعًا ولا النصر صنمًا، بل يربط الفلاح الحقيقي بإقامة القسط لا بحجم النفوذ. وهو حين يمنح مساحات للتوبة والعفو، فإنه لا يفعل ذلك مجانًا، بل ضمن شروط صارمة من الاعتراف والإصلاح وردّ الحقوق. وفي هذا، تتفوق الرؤية القرآنية على معظم مقاربات الحداثة في العدالة الانتقالية، إذ تجمع بين المقصد الأخلاقي والعقل المؤسسي، بين الرحمة والصرامة، بين الفضاء السنني الإلهي والحس الواعي التاريخي.

ليس المطلوب إذًا أن نُدين السياسات بسطحية، بل أن نُعيد بناء أدوات الحكم على ضوء الفهم القرآني للأمانة والمسؤولية، وأن نُدرك أن كل تهاون اليوم هو نواة لانفجار قادم. فكما أن النار تبدأ من مستصغر الشرر، فإن انهيار الأمم يبدأ من لحظة خيانة للعدل، مغطاة برداء السياسة. قال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25].

فما لم نُسمِّي الأشياء بأسمائها، ونُقيم الموازين بالقسط، فإننا نكرِّس دورة جديدة من الانهيار، ونؤجل ساعة الحقيقة باسم وهم الاستقرار، إن الرشاد السياسي الذي تجليه السنن والقوانين الإلهية ليس حيلة براغماتية، بل مشقة أخلاقية، لا ينهض بها إلا من حمل همّ الأمانة، وارتقى إلى مستوى الإنسان.

لا صلاح بلا عدالة، ولا نصر بلا قيم، ولا مستقبل يُبنى على دماء الأبرياء.

المراجع:
  1. ابن كثير، البداية والنهاية
  2. Machiavelli, N. (1513). The Prince.
  3. الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير
  4. سيد قطب، في ظلال القرآن
  5. محمد عبد الله دراز، الدستور القرآني
  6. محمد عمارة، معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام
  7. عبد الرحمن الكواكبي، طبائع الاستبداد
  8. Amnesty International (2023). Reports on Syria and impunity

 

أيمن قاسم الرفاعي

Ayman Q. Alrefai

دكتــــــوراة دراســـــات إسلاميـــــة في العلوم السياسية
باحــث متخصـص في مجـال الإدارة والسياســة العامة
مدون وكاتب في مجال الفكر والفن والأدب والقصة والشعر

آخر ما حرر
مقالات ذات صلة
Scroll to Top