نور تركي عباس
التحولات النفسية والاجتماعية بعد سقوط النظام: قراءة معمقة في ظاهرة التغيرات السلوكية
نور تركي عباس
حين ينهار نظام حكم استبدادي بعد عقود من السيطرة، لا يكون سقوطه مجرد حدث سياسي، بل زلزالًا يضرب عمق التكوين النفسي والاجتماعي للشعب الذي رزح تحت وطأته؛ فالتغيرات لا تقتصر على المؤسسات والقوانين، بل تمتد إلى الأفراد، إلى ملامحهم الفكرية والوجدانية، إلى أنماط تفاعلهم مع العالم ومع أنفسهم. وفي الحالة السورية، برزت ظاهرة لافتة للنظر، ألا وهي التحولات الجذرية في شخصية بعض الأفراد الذين كانوا يتمتعون باتزان فكري ونفسي، ثم انقلبت حالتهم بعد سقوط النظام إلى نقيضها، فباتوا أكثر حدةً، وأكثر عصبية، وأحيانًا أكثر تعصبًا لرؤى كانوا يحاربونها بالأمس القريب.
لا يمكن قراءة هذه الظاهرة على أنها مجرد تبدل عابر في المزاج السياسي، بل هي نتاج تراكمات نفسية واجتماعية معقدة، ترتبط بعوامل عديدة، من بينها الصدمة الجماعية، والاستقطاب الحاد، وانهيار المرجعيات التقليدية التي كانت تضبط إيقاع الفكر والسلوك؛ فما الذي يفسر هذه التحولات، وكيف يمكن التعامل معها لضمان ألا يتحول الانفجار السياسي إلى انشطار اجتماعي يدوم لعقود؟
أسباب التحولات السلوكية
- الصدمة الجماعية وانهيار البنية النفسية التقليدية
على مدى سنوات طويلة، كان السوريون يعيشون في بيئة محكومة بالخوف، حيث كان النظام يمارس سياسات السيطرة والقمع التي دفعت كثيرين إلى تبني آليات دفاعية نفسية تحميهم من تبعات التفكير الحر أو المعارضة العلنية. وعند سقوط النظام، وجد هؤلاء أنفسهم فجأة أمام واقع جديد، واقع من دون الحواجز التي لطالما شكلت إطارًا نفسيًا مريحًا لهم، رغم قسوته. هذه الحرية المفاجئة لم تكن بالضرورة رحمةً، بل تحولت عند البعض إلى أزمة وجودية، إذ فقدوا الإيقاع الذي اعتادوا عليه، وسقطوا في حالة من الاضطراب الذهني، تجلت في صورة ردود فعل غير متزنة، من تعصب مفرط إلى عدم القدرة على النقاش الهادئ.
- وضعية النجاة وتأثيرها على الإدراك والعلاقات الاجتماعية
تخلق الحروب والصراعات طويلة الأمد بيئات يسودها منطق “النجاة”، حيث يتحول الإنسان إلى كائن يعمل بغريزة الدفاع، ويرى في أي اختلاف تهديدًا محتملًا، ويتبنى سلوكيات أكثر حدةً لضمان استمراره. وقد مرّ السوريون بمرحلة قاسية جعلتهم أسرى لهذا المنطق، حيث باتت الانتماءات السياسية والفكرية مرتبطة بالهوية الشخصية، وأصبح أي خلاف فكري يُقرأ بوصفه تعديًا على جوهر الإنسان نفسه، ما دفع البعض إلى الدفاع عن آرائهم وكأنهم يدافعون عن حياتهم، فأصبح الحوار مستحيلًا، والانفتاح على الآخر ضربًا من الخطر.
- الاستقطاب السياسي والإعلامي وتحولات الخطاب
بعد سقوط النظام، لم يكن المشهد السياسي السوري متسقًا أو موحدًا، بل دخل في مرحلة استقطاب حادة، حيث انقسم المجتمع إلى تيارات متعارضة، كل منها يرى في الآخر تهديدًا يجب محاربته، وقد تعزز هذا الاستقطاب بفعل وسائل الإعلام التي لعبت دورًا في تشكيل خطاب يقوم على التشدد، ما جعل البيئة الفكرية السورية أكثر توترًا، وأدى إلى تفشي ثقافة الإقصاء بدلًا من ثقافة الحوار. فصار البعض يتبنى مواقف متطرفة لمجرد أنها تشعره بالأمان في بحر متلاطم من التحولات، ولم يعد يرى في المخالف شخصًا يحمل وجهة نظر أخرى، بل عدوًا يجب سحقه أو تجاهله تمامًا.
تداعيات الظاهرة وتأثيرها في مستقبل المجتمع
إن استمرار هذه التحولات السلوكية دون معالجة يؤدي إلى تعميق الشرخ الاجتماعي، حيث يصبح الانقسام الفكري أكثر جذرية، ويزداد الابتعاد عن النقاش العقلاني القائم على أسس منطقية. وهذا لا يهدد فقط الاستقرار النفسي للأفراد، بل يقوض أي إمكانية لبناء مجتمع متماسك قادر على تجاوز الماضي وإرساء مستقبل قائم على الحوار والتفاهم. فالعدائية الفكرية التي باتت جزءًا من الواقع الحالي قد تتحول إلى بنية ثابتة، تُعيد إنتاج نفسها عبر الأجيال، فتخلق صراعات مستمرة تحول دون بناء دولة حديثة قائمة على المواطنة وليس على الولاءات الحزبية والعاطفية الضيقة.
الحلول الممكنة
- إعادة إرساء ثقافة الحوار والتسامح الفكري
لا تُبنى المجتمعات عبر الصراعات، بل عبر الحوار. ومن هنا، يجب أن تتبنى المؤسسات الثقافية والإعلامية خطابًا جديدًا يقوم على احترام التعددية الفكرية، ويشجع على الاختلاف الصحي بدلًا من الاختلاف العدائي.
- برامج الدعم النفسي وإعادة التوازن الاجتماعي
لا يمكن تجاوز آثار الحرب بمجرد انتهاء الصراع العسكري، بل تحتاج الشعوب إلى عمليات إعادة تأهيل نفسي تساعد الأفراد في استعادة توازنهم الداخلي، وتمكينهم من التعامل مع الواقع الجديد دون الوقوع في ردود الفعل العاطفية المتطرفة.
- مكافحة الاستقطاب الإعلامي والسياسي
يجب أن تتجه النخب السياسية والثقافية نحو تقديم خطاب أكثر اعتدالًا، يهدف إلى ردم الهوة بين التيارات المختلفة بدلًا من تعميقها، وذلك لضمان أن يكون المستقبل قائمًا على التفاعل البناء وليس على الصراعات العقيمة.
ختامًا، إنّ التغيرات السلوكية التي شهدها السوريون بعد سقوط النظام ليست مجرد تحولات فردية، بل هي انعكاس لتحولات عميقة في البنية المجتمعية. هذا الواقع، رغم صعوبته، ليس قدرًا محتومًا، بل يمكن تجاوزه عبر العمل على إرساء بيئة أكثر توازنًا، حيث يُتعامل مع الصدمة الجماعية بوعي، ويُعاد تشكيل الخطاب العام ليكون أكثر عقلانية وانفتاحًا. فالمجتمعات التي تستطيع معالجة أزماتها النفسية والاجتماعية هي وحدها القادرة على بناء مستقبل مستقر، وهذا هو التحدي الحقيقي الذي يواجه السوريين في المرحلة المقبلة.