الصياد والحصى
بعد شهر من الحظ السيء استيقظ الصياد العجوز قبل شروق الشمس على رجع قرقعة بطنه الخاوية، لم يكن في بيته كسرة خبز واحدة، أحس بمخالب القهر تقبض حنجرته من آلام الجوع التي تضرب بطون أبناءه الخمسة فيرتد رجع صدى آلامها في أذنيه. حمل صنارته في صمت وخرج في الظلام قاصد النهر لعله إن بكر في إلقاء صنارته حظي بالصيد الذي جافاه منذ شهر ليسد به رمق عياله، وهو في طريقه تعثر بكيس مليء بالحصى كالذي يستخدمه الصيادون في تثبيت شباك الصيد، حمله والحسرة تملأ عينيه إذ لطالما حلم أن يمتلك شبكة يستطيع بها أن يزيد من صيده ويوسع من رزقه بدل صنارته القديمة الوحيدة، أخذ الكيس واعتبره إشارة خير وفأل حسن، فلطالما آمن بالإشارات التي لم تتحقق يوماً رغم حياته الطويلة.
مضى الصياد يكمل طريقه إلى النهر، وصل الى ضفة النهر وكان الظلام لايزال ينشر ستائره التي تغشي كل شيء، جلس في صمت يرقب خيوط الفجر الأولى حتى يلقى بصنارته لاقتناص أولى السمكات، ومن ضجر الانتظار أخذ يداعب حصى الكيس الذي وجده كانت الحصى باردة صقيلة الملمس، أغمض عينيه وتمنى أمنية بان يكرمه الله بصيد وفير في هذا اليوم شفقة بعياله، وحمل حصاة من الكيس وألقى بها في الماء كما كان يفعلها في صباه مع أصدقائه حين كانوا يرغبون في أمنياتهم، جرفته الذكرى عميقاً وحمله الأمل أبعد من شطآن النهر وضفتيه، وراح يلقي بالحصى الواحد تلو الأخرى وهو يسبح في عالم من الأمنيات وخيالات الذكرى، لم يوقظه من غفوة أحلام يقظته إلا خيوط الشمس الأولى التي أسدلها الفجر لتنساب فوق ستائر الظلام فتمزق عتمها بنور بريقها وتلألأها.
ذهبت عنه نشوة الأحلام والآمال وغصة الذكريات وحانت لحظة العمل، فنفض رأسه واستعد لإلقاء صنارته، نحَّا كيس الحصى جانباً فوجده قد افرغ ولم يبق فيه إلا حصاة واحدة، استوقفته تلك الحصاة الأخيرة داخل الكيس وأراد ان ينهي رحلة الحلم التي عاشها بان يتمنى آخر أمنية بقذف تلك الحصاة، حمل الحصاة وهم بإلقائها في النهر، لكن يده جمدت في مكانها وتسارعت دقات قلبه فجأة، هز رأسه وفرك عينيه، لم تكن الحصاة التي بقيت في الكيس سوى ماسة براقة، أصابه الوجوم وفاضت روحه بالأسى، لقد ألقى لتوه في النهر ثروة لم يكن ليحلم بها حتى في أجمل أحلامه وأكثرها بذخاً، اخذت الحسرة والفرح تتنازعان شغاف قلبه وتمزقانه، وراح هو يبكي ويبكي ولا يدري لأيهما يبذل دموعه.
ايمن قاسم الرفاعي
(من التراث العالمي – بتصرف)
16/01/2014م