مؤتمر جنيف وسياسة المناورة
ايمن قاسم الرفاعي
01/03/2014م
عقد مؤتمر (جنيف 2) ومن قبله (جنيف 1) في سبيل التوصل إلى حل جذري شامل للقضية السورية التي باتت إحدى أعقد الأزمات السياسية على الصعيد العالمي في العصر الحديث، نظراً لكثرة الدول الفاعلة في هذه الأزمة وتعقد المصالح الجيوسياسية والاستراتيجية لهذه الدول على الأرض السورية، الأمر الذي دفع نحو تحول الأوضاع في سوريا من المظاهرات السلمية الشعبية التي بدأت داخلها إلى ما تشهده اليوم من حروب وصراعات بمسميات وأغراض مختلفة ومتنوعة ولمصالح خارجية.
إن أردنا التعريف بمؤتمر (جنيف 2) وفق الغاية التي نودي به لأجلها، فهو عبارة عن لقاء بين طرفي الصراع الأساسيين (النظام السوري وقوى الثورة السورية) للتفاوض وإنهاء الأزمة السورية وتبعاتها التي لم يسلم من أذاها إنسان في سوريا سواء أكان من النظام ومعه أو من الثورة ومعها وقبلهم كلهم سوريا الوطن، لكن هل فعلاً كان هذا المؤتمر يتناسب مع هذا التعريف؟.
إن حقيقة مؤتمر (جنيف 2) لم تتعد كونه مناورة سياسية لحفظ بعض من ماء الوجه المسفوح للمجتمع الدولي وعلى رأسه (منظمة الأمم المتحدة) تجاه الدور السلبي الذي تقوم به من خلال صمتها حيال الدماء التي تسيل في سوريا دون وجود أقل قدر من الحياء الإنساني لدى هذه المنظمة الأممية والدول “المسماة بالعظمى” للتدخل ووقف المجازر المرتكبة كل يوم بحق المدنيين من اطفال ونساء وشيوخ على مرأى ومسمع من العالم بأسره، وما يؤكد انه مجرد مناورة سياسية هو الأسس التي أقيم عليها هذا المؤتمر، والتي يفترض أن تستند إلى ما صدر عن (جنيف 1) الذي أكد بموافقة حاضريه من دول المجتمع الدولي على ضرورة إيقاف كل أشكال العمل العسكري وإيجاد قيادة مؤقتة تستبعد أي دور لبشار الأسد وزمرته في سوريا المستقبل. في حين نجد أن المؤتمر كان حقيقة بين ممثلين غير أصحاب قرار عن النظام مع ممثل عن المعارضة السياسية التي لا تملك تمثيل حقيقي فاعل لقوى الثورة السورية، بالإضافة الى الاصرار على وجود الأطراف الإقليمية الفاعلة في الصراع (كإيران والسعودية وتركيا وغيرهم) وقبلهم جميعا اشراف الدول العظمى صاحبة الفعل الحقيقي في هذه الأزمة (كالولايات المتحدة وروسيا)، وبالتالي تحول المؤتمر من صيغة اجتماع السوريين الفاعلين في القضية مع بعضهم لإيجاد تسوية لشؤونهم الداخلية فيما بينهم، إلى اجتماع أطراف سورية غير فاعلة بحضور دول خارجية، الأمر الذي حول اللقاء الذي يفترض به حل الأزمة إلى لقاء بروتوكولي مشدود بخيوط العلاقات السياسية التي تحركها اصابع الدول ذات المصالح الجيوسياسية والاستراتيجية في سوريا.
وقد استند مؤتمر (جنيف 2) كسائره من المؤتمرات واللقاءات الخاصة بالقضية السورية إلى نظرية المتقابلات والأضداد التي تقوم على ثنائية (النظام والمعارضة السياسة) رغم ان كلا الطرفين لا يعبران عن حقيقة رأي غالبية الشعب السوري سواء أكان من مؤيد للنظام أم من المنضوين تحت قوى الثورة والمؤيدين لها، لان النظام ونتيجة سياساته الإقصائية وفساده قد بات مرتهن القرار للجانب الايراني صاحب القرار الفعلي وبالتالي هو لا يعبر عن رؤية ولا قرار تلك الشريحة الضيقة التي لازالت تؤيده، والمعارضة السياسية ما هي إلا الطرف السياسي الذي يفرضه الفعل السياسي الدولي على الثورة السورية وان كان فيه بعض ابنائها إلا أن القوى الفاعلة سياسياً على الصعيد الدولي تصر على عزل القيادة السياسية للثورة عن قواعدها الشعبية على الارض حتى تبقى مرتهنة للقرار السياسي لهذه الدول الفاعلة لتحقيق المصالح التي تناسبها، وبالتالي فإن الشعب السوري بغالبيته مغيب تماماً عن واقع هذا المؤتمر والثنائية المفروضة عليه (النظام والمعارضة) ما هي إلا ثنائية موهومة لا تعبر لا عن سوريا ولا عن شعبها في ظل هذه الأزمة الإنسانية الكبيرة، حيث تتفرد الشريحة الأكبر من الشعب السوري في تجرعها لآلام وجراحات النزاع الذي تكابده بلدهم ولا مغيث.
مهد الاعلام وطبل وزمر كثيراً لمؤتمر (جنيف 2) على أساس أنه يحمل حلم حل القضية السورية برمتها وإنهاء هذه الازمة الانسانية التي تم تصويرها على أنها باتت تؤرق الضمير العالمي الحي اكثر مما تؤلم أهلها الذين يتجرعون ويلاتها، الأمر الذي شكل عامل ضغط كبير على الحراك السياسي للثورة وكذلك حتى للنظام، لكن بالنظر إلى جدول المناقشات والمواضيع التي تم طرحها وتداولها والمحادثات التي تمت فيه، نرى الاجتزاء والضحالة الذين اتصف بهما هذا المؤتمر والذي وصف في لحظة من اللحظات على انه مصيري للقضية السورية والسوريين، حيث أن القضية الجوهرية التي استندت إليه الدعوة إلى المؤتمر في إنهاء المعاناة التي يتجرعها السوريين بشكل تام وإيقاف مسلسل الموت المستمر الذي يحصد كل يوم مئات ان لم يكن آلاف الضحايا، تم اختصارها بمطالب ضيقة جزئية تتجلى في ادخال بعض مواد الإغاثية إلى إحدى المناطق المحاصرة (حمص القديمة) من واقع آلاف المناطق المضطهدة والمحاصرة تحت مسمى (إبداء حسن النوايا)، والتحول من مطلب إسقاط النظام ومحاسبة كل الذين تلوثت أيديهم بدماء الشعب السوري إلى مفاوضات لنقل السلطة مع من لا يملكها لمن لا يستحقها تحت مسمى (اتفاقات اللحظة الراهنة والمرحلة الانتقالية). وعلى هذا الأساس تم فشل هذا المؤتمر بسبب فشل الأسس التي قام عليها، وأسَّس بنتيجة ذلك إلى فشل مستمر لأي لقاء وتفاوض طالما أن التفاوض يتم دائماً على الجزئيات دون الكليات والحلول المؤقتة دون الحل الشامل التام.
ومثله كمثل كافة المفاوضات السياسية التي مرت بها القضية السورية حتى اليوم، تحول مؤتمر (جنيف 2) من كونه وسيلة لحل القضية السورية وإنهاء أزمة ومعاناة السوريين إلى غاية وهدف بحد ذاته يتجسد فقط بمجرد انعقاده وحدوثه، وهو ما اظهره حجم المفاوضات والوساطات الدولية التي بذلت لمجرد قبول أطراف النزاع السوري والدول المؤثرة فيه لانعقاد هذا المؤتمر وانجازه، الأمر الذي واجه عقبات كثيرة مما أدى إلى تأجيل موعده مراراً، وتحت هذه الظروف التي تحول فيها مؤتمر جنيف من وسيلة إلى هدف كبير في إطار القضية السورية، تم التغاضي والصفح عن جدوى وقيمة المناقشات التي تحولت إلى مهاترات حول بروتوكولات وشكليات لا قيمة لها والانجراف وراء محادثات ثنائية خلت من أي نقاش للثوابت التي قامت عليها الثورة السورية والاقتصار على الخروج بنتائج جزئية، مع الاصرار على ضرورة ان تستمر لقاءات جنيف في مواعيد لاحقة بصورة جعلت من الوسائل غايات نهائية بحد ذاتها، وبذلك أصبحت حتى هذه الوسائل أهداف غالية يعز إدراكها، وبذلك يتم تناسي القضية الأساسية التي وجد جنيف وسواه لأجلها، والانشغال بالمناورات السياسية عن النتائج الحقيقية التي يتطلع إليها من يكابد الأسى والألم من الشعب السوري.
هناك ثوابت أساسية تقوم عليها القضية السورية تستند إلى رغبة الملايين من السوريين والذين عانوا لأكثر من أربعين سنة من ظلم نظام الأسد الأب والابن إلى التحرر والحصول على حقوقهم الانسانية في حياة تقوم على مبدأ الحرية والكرامة التي تتوافق مع التاريخ الحضاري العظيم لبلد تمتد جذوره الحضارية لآلاف السنين في قلب التاريخ، الأمر الذي حدا بالسوريين إلى الخروج في مظاهرات سلمية لتحقيق هذه المطالب المحقة، إلا انهم ونتيجة لذلك الحراك الشعبي العفوي دفعوا ضريبة هي الأقسى إنسانياً في هذا العصر نتيجة ظروف سياسية كثيرة منها طبيعة النظام الحاكم وفساده وتعقيدات المصالح الدولية في سوريا، لذا فمن الثوابت الرئيسة لأي تحرك لحل الأزمة السورية هو احترام مطلب الشعب السوري الذي خرج لأجله بالملايين واحترام التضحيات الكبيرة التي قدمها هذا الشعب، أما فيما يتعلق بالوسائل المستخدمة لهذا الحل فهي من المتغيرات التي هي مفتوحة على كافة الخيارات سواء اكانت سياسية ام عسكرية طالما انها تحترم هذه الثوابت بالإضافة إلى الثوابت الوطنية، على هذا الأساس كان مصير (جنيف 2) الفشل لأنه لم يراعي الثوابت وجعل منها متغيرات نزولاً على رغبة المجتمع الدولي وانصياعاً للإملاءات الدولية في ذلك، وجعل المتغيرات التي هي مجرد وسائل للوصول للأهداف الأساسية أهداف بحد ذاتها والوصول إليها أنجاز يحسب لأصحابه، لذلك كان ذلك الفشل الذريع لمؤتمر (جنيف 2) وما رافقه من محادثات لم تتوافق أبداً مع الثابت والمتغير في هذه الأزمة الإنسانية السياسية العصية على أهل هذا الزمان.