فن الإدارة القرآنية – الإدارة الراشدة السببية

عندما بعث عمرُ بن الخطاب عمرو بن العاص والياً على مصر.. وقبل أن يوصيه.. سأله: يا عمرو، إن جاءك سارق في مصر.. فماذا أنت فاعل؟ فأجاب عمرو من فوره: أقطع يده يا أمير المؤمنين. فقال له عمر: والله يا ابن العاص، وأنا إن جاءني جائع من مصر.. قطعت يدك.

يقول ألبرت أينشتاين:

الأذكياء يحلون المشاكل، لكن العباقرة هم من يمنعون حدوثها

لا شك أن ابن العاص كان مثلاً في الذكاء والدهاء، ولكن الآكد منه أن ابن الخطاب كان دوماً رمزاً للأمة في العبقرية والإبداع.

كانت رسالة ابن الخطاب واضحة لواليله الجديد وللولاة جميعاً من خلفه؛ أن الحكم الرشيد والقائد الراشد الذي يجب أن تكون عليه أيها الوالي أو المدير أو المسؤول مهما علا منصبك أو دنا، هو الذي يقوم على البحث عن جذور المشاكل وإزالة أسبابها قبل وقوعها، لا الانتظار حتى الغرق في مستنقع نتائجها الوخيمة، ومن ثم محاولة الطفو والنجاة من هذا الغرق من خلال الانشغال بإصلاح النتائج ومحاولة تنفيذ هذه الاصلاحات على ما تتركه من آثار بعد وقوعها وإنزال العقوبات على مرتكبيها.

ولو أمعنا النظر لوجدنا لهذا إشارات في كتاب الله عز وجل، منها:

 يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) الحجرات.

يشير الباري سبحانه في الآية الأولى إلى نبأ الفاسق وطريقة التعامل معه، ويختلط أحياناً على البعض فهم معنى الآيات ويظن خطأ أن القضية تتعلق بالكذب عموماً. لكن القرآن حقيقة غير قائم على مبدأ الترادف في الألفاظ إطلاقاً؛ فحين ذكر الفاسق فهو يعني حتماً الفاسق بفسقه وليس الكاذب بكذبه، وحين ذكر النبأ فهو يعني النبأ كحديث عن غيب محجوب لعلة نقص المعرفة سواء زماناً (مستقبلاً أو ماضٍ) أو مكاناً (حاضراً مستور) يحتمل فيه الغلط والخطأ، ولا يعني حتماً الخبر كحديث عن علم منقول معلوم يحتمل فيه الكذب.

إن الفاسق لغةً هو من خرج عما تعارف وتآلف عليه الناس واختلف عنهم إذ جاء بأمر مرفوض أو غريب (لسان العرب)، واصطلاحاً هو الخروج عن أوامر الله (معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية). والمقصود بالفاسق هنا – سواء أكان لغةً أو اصطلاحاً – يوجب أن يتعامل المؤمن الراشد مع النبأ (الغيب المحجوب) الذي جاء به هذا الفاسق بكل رشد ووعي، من خلال التحري عن حقيقة هذا النبأ والبحث عن جذوره حتى لا يقع في الجهالة حين معالجته والتعامل معه ومع آثاره التي يمكن أن يسببها، وسواء ذلك أكان في وقعه على الفاسق الذي جاء به إن كان لغةً هو المقصود وهو ظلم لا يرضاه الله، أم على من يقع عليهم أثره إن كان اصطلاحاً هو المقصود وهو إثم يأباه الله، وذلك حتى نكون من الراشدين في تعاملنا مع هكذا قضايا كما طلب منا.

إن الرشاد في الوعي الإنساني قائم على الإدارة واتخاذ القرار بعد التحقيق والتبصر والبحث في جذور الأمور ومسبباتها سواء بعد أن تقع أو حتى قبل أن تقع، وعدم الركون إلى الانفعال والعاطفة والأشكال الصورية الخادعة في التعاطي مع النتائج وملاحقة أذيالها. وبناء على هذه القاعدة المعرفية الإنسانية تم الخلوص علمياً إلى (مبدأ السببية) الفلسفي الذي أسندت إليه معظم الفلسفات والنظريات والحقائق العلمية. ولعل أبرزها في مجال الإدارة والسياسة ونحن نتناول موضوعها هنا، هو (قاعدة السبب والأثر)، وهو المبدأ الأول علمياً في السياسة الراشدة وأنظمة الإدارة المستدامة، كنظرية الحيود السداسي (معايير سيغما الستة)، أو أدوات الجودة السبعة أو أنظمة HACCP و FMEA أو غيرها من أنظمة إدارة السلامة والجودة. وأول ما عرف هذا المبدأ كوسيلة تقنية في الإدارة في ستينات القرن الماضي باسم (مخطط إيشيكاوا) نسبة للعالم الذي ابتكره، أو مخطط السبب والأثر بحسب مفهومه أو مخطط هيكل السمكة بحسب شكله. حيث تستعمل هذه الأداة لحصر كافة الأسباب المحتملة لأثر (مشكلة) معين ولإيجاد العلاقة بين الأثر وأسبابه في توقع يساعد سواء في تلافي حدوث أسباب مشاكل يمكن أن تقع أو حل مشاكل قد وقعت بالفعل من خلال معالجة أسبابها.

يشير بعد ذلك سبحانه في الآية الثانية عطفاً على الآية الأولى مخاطباً الصحابة الكرام أن رسول الله لو أطاعهم في كثير من الأمور مستنداً إلى ردود أفعالهم تجاه الحوادث دون التريث والبحث عن أسبابها من أجل أن يعلمهم أنجع الحلول كما علمه الله من خلال وحيه وقوانينه في هذا القرآن لأصابهم (العنت)، والعنت هنا وصف بديع يوافق في هذا المقام خير المقال، حيث يعبر عن الجهد والمشقة التي تصيب المرء جراء الانكسار وفساد أمره (بحسب المفهوم القرآني). لكن الله منّ عليهم (الصحابة) وعلى المؤمنين من خلفهم (وهو ما تدل عليه نهاية الآية) بمحبة الإيمان والشغف به، وقد قصد من صفات الإيمان الكثيرة أمور تشير إليها ما بعدها من الكلمات حين قارن ذلك بكراهة الكفر والفسوق والعصيان. إن أهم صفات الإيمان المقصودة هي تواضع العارف بالله المستند إلى العلم والمعرفة الحقة، وقيم الأمر بالمعروف المستندة إلى الأخلاق، وأناة وصبر الحليم المستند إلى الحكمة، وهذه الصفات تقابل ما كرّه به الله قلوب المؤمنين (بفعل قوانينه في النفس وسننه)، من جحود الكفر النابع عن الكبر، وشذوذ الفسق الذي لا خلاق له، وتمرد العاصي الذي لا رأي له. لذلك كان الإيمان محبة وزينة في ذات الآن كما أشار سبحانه، محبة في أسبابه وزينة في نتائجه. (حبب إليكم) خطاب عام للإنسان حيث فطرت نفسه على محبة وتفضيل القيم والأخلاق الإيمانية سواء أمتلك تلك الصفات هو في نفسه أم لا، لأنه لا يرضى أن يعامله الناس إلا بها فمكسبه ومصلحته تتعلق باتباع الناس لها في تعامله معهم. (زينه في قلوبكم)، القلب هنا كما يعرفه القرآن دائما فهو مناط الوعي والإدراك والتفكير وهو العضو الذي يميز الصلاح في ميزان المنطق وبالتالي قدرته على تمييز الجمال من القبح في الأشياء والأمور على السواء.

 وبالتالي من ملك مثل هذه الصفات (تواضع العالم وقيم الخلوق وحلم الحكيم) حتماً سيكون من الراشدين الذي أصلحوا أنفسهم بأخلاقهم الإيمانية، فصلحت بهم وبأفعالهم مجتمعاتهم وتزينت، (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) وهنا تحول الخطاب الإلهي بأسلوب بديع من خطاب المخاطب (كما بدأ مخاطباً الصحابة) إلى خطاب الغائب العام (إلى سائر المؤمنين).

وهكذا نرى أن ابن الخطاب الذي امتاز بامتلاك بارادايم (نموذج تفكير) قرآني تشهد له بها مواضع عدة من السيرة النبوية والراشدية، ينتهج في توجيه ولاته هذا الفهم القرآني حتى يكونوا من الراشدين، من خلال لفت نظرهم وقدح تفكيرهم إلى أن يحرصوا على إزالة أسباب المشاكل قبل أن ينشغلوا بالتفكير في قضية التعامل مع نتائجها. وهو إذ جعل قطع يد الوالي وسيلته لحل مشاكل الفقر، ما كان ليخرج عن الفهم القرآني فيسن بذلك حد لم يوجده الله فيما لو كان حد القطع هو البتر، بل طبق الفهم القرآني نفسه على أن القطع في مقام حد السرقة هو كف اليد لا بترها على اختلاف وسائل الكف وفق مقتضى الحال في الزمان والمكان (أنظر بارادايم القرآن – قانون الحدود)، لأن المقصد القرآني المبني على الرحمة ينحو دائماً لإزالة أسباب حدوث المعاصي والمشاكل وردع المخطئ لا الإمعان في العنف من خلال إيقاع العقوبات وتعذيب المتسبب. وذلك لأن أسباب السرقة لا تتعلق بفساد المرء فقط، بل الأصل فيها غالباً هو الحاجة والفقر والبطالة وهو ما حكم به ابن الخطاب نفسه في غلمان حاطب بن أبي بلتعة في القصة المشهورة (انظر بارادايم القرآن – المسؤولية التضامنية)، فكان حكم قطع أيدي الغلمان حينها من خلال دفع سيدهم حاطب لسد حاجتهم وتغريمه، والذي لم يكن تعطيل للحد كما يرى البعض وإنما إقامة الحد حق الإقامة.

إذن إن الإدارة التي تقوم على مبدأ السعي خلف نتائج المشاكل التي تظهر لها والتعامل مع آثارها دون البحث عن أسباب المشاكل لتصحيح هذه المشاكل او التقصي عنها قبل وقوعها لمنع هذه المشاكل ابتداءً هي إدارة فاشلة حكماً وغير راشدة هذا إن أحسنّا الظن ولم تكن شريرة النية والمقصد ابتداءً، فلا تخلف إلا واقع من المشاكل نهايته الانحطاط والانهيار ولا أدل على ذلك من واقعنا المعاش. لأنها بذلك مثل الطبيب الذي لا يتعامل إلا مع أعراض الداء بالمسكنات ومهما خفف ذلك المسكن الألم في الظاهر إلا أنه يفسح المجال للمرض ومسبباته من آفات الجراثيم أو الخلايا السرطانية بأن يفتك بالجسم أكثر حتى يقع صاحبه حتف أنفه بجهل أساته.

وقد قالت العرب قديماً:

لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها .... إن كنت شهماً فأتبع رأسها الذنبا

شارك:

مقالات ذات صلة:

أيمن قاسم الرفاعي

Ayman Q. Alrefai

باحـــث دكتــــــوراة فـــي الدراســـــات الإسلاميـــــة
كـاتب وباحــث متخصـص في مجـال الإدارة والسياســة العامة
مدون وكاتب في مجال الفكر والفن والأدب والقصة والشعر

آخر ما حرر
مقالات ذات صلة
Scroll to Top